الشراكة العربية في البحوث العلمية
بقلم: مصطفى الفقي

النشرة الدولية –

أشعرُ بقدرٍ من الإحباط كلّما تابعت الأرقام المتواضعة للبحث العلمي في مصر، بل وفي معظم الدول العربية، إذ إنها لا تمثل إلا قدراً ضئيلاً من الدخل القومي، فضلاً عن أنها أبحاث تقليدية ليس فيها قدرٌ من الإبداع التكنولوجي أو الخيال العلمي.

 

ومن الطبيعي أن أشعر باعتباري عربياً، ومصرياً أيضاً، أننا ما زلنا بعيدين كثيراً عن المسار المتقدم للبحث العلمي في عالمنا المعاصر، فلقد جاءت محنة كورونا لكي تكشف النقاب عن واقع الأمم وإمكانات الشعوب، وتبرز بشكل كامل وبتعرية واضحة الأوضاع الحقيقية للدول المختلفة.

 

ونحن هنا في المنطقة العربية حاول بعض الدول منا أن يدخل مجال البحث العلمي، لكن الأغلب الأعم منها رأى في ذلك نوعاً من الترف، وأن الأفواه الجائعة أولى بالطعام من العقول الخاوية التي تتطلع إلى العلم والبحث والتحليل. ولحسن الحظ ولأسباب غير محددة حتى الآن، فإن الله وقف إلى جانب شعوبنا ذات المعدلات البطيئة في التقدم والدخول القومية المحدودة.

 

ولقد انتهى الأمر بنا إلى أن الأثرياء أصبحوا أكثر معاناة من الفقراء، ومن يتابع ما جرى في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وحتى إيران سوف يكتشف أن ثراء الدول وإمكانات الشعوب لم تتمكّن من منع الخطر أو الإقلال من نتائجه، وأصبحنا أمام طرح واضح مؤداه أن العالم بعد كورونا ليس هو ذاته قبلها، كما أنّ العلاقات الدولية المعاصرة أصيبت بصدمة كبيرة نتيجة التخاذل الدولي عن دعم بعض الدول عندما استنجدت بغيرها في مواجهة الكارثة العالمية الناجمة عن ذلك الفيروس الذي يهدد البشرية بغير استثناء.

 

وها نحن الآن، نبحث الشراكة العلمية في بحوث الطب الحديث والدراسات المتقدمة في مواجهة الأوبئة من خلال البحوث البيولوجية ودراسات تخليق الفيروسات المدمرة، وبالمناسبة فأنا أفترض حسن النية لدى كل الأطراف، ولا أستسلم بلا وعي لنظرية المؤامرة التي تفترض أن تخليق ذلك الفيروس اللعين هو من صنع الأبحاث العلمية في بعض الدول الكبرى، لمحاربة نظيراتها والسيطرة على الاقتصاد العالمي مستقبلاً مع اعترافي بأن الصين رابحٌ أول حتى الآن.

 

كما أنّ الولايات المتحدة الأميركية أثبتت أنّ التفوق العسكري والقوة الاقتصادية لا يقفان وحدهما عند تحديد مكانة الدول وقيمتها، وأن الأمر يحتاج في النهاية إلى التقدّم التكنولوجي والبحث العلمي والاستكشافات الطبية في عالم الأمصال والطب الوقائي عموماً، وها أنا أطرح الآن عدداً من الملاحظات حول عالم ما بعد كورونا في إطار البحث العلمي العربي، وأوجزها في ما يلي:

 

أولاً: كانت المقولة التي تتردد في العقود الأخيرة هي أنّ القرن الحادي والعشرين هو قرن الصين بامتياز، وأنها سوف تتصدّر المشهد الدولي رغم ادعاءاتها أنها لا تريد ذلك، ولا تتطلع إلى دور عالمي يرث العصر الأميركي، وكنت إذا سألت دبلوماسياً صينياً هل تعد بلادك نفسها، لكي تكون هي القيادة الجديدة للعالم المعاصر؟ فينتفض كأنما لدغه ثعبان، ويقول: ليست هذه طريقة تفكيرنا، فنحن لا نسعى إلى وراثة الإمبريالية الأميركية، وكل ما نريده أن نلعب دوراً كبيراً في آسيا، وأن نسعى لاستقرار دول الجوار ودفع الاقتصاد الصيني، لكي يكون في الصدارة، لأن الصينيين يدركون أن قيادة العالم لها تكاليف باهظة، فهي تحتاج إلى حروب وأحلاف والدخول في صراعات بلا حدود، فضلاً عن الحجم المتزايد للإنفاق العسكري.

 

وبذلك أصبحنا أمام مشهد يشير إلى وضع مختلف، إلى أن برزت النيات الصينية في العقدين الأخيرين، وبدأت تتطلع إلى أدوار سياسية وثقافية، وليس الاكتفاء فقط بدورها في الحرب الباردة الاقتصادية أمام الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً، وعندما تقدّمت الصين بمرشح لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) شعرنا أن شهية بكين تفتحت تجاه دور ثقافي يدعم وجودها السياسي بعد غزوها الاقتصادي الكاسح في أسواق العالم، وقد جاءت كارثة كورونا لكي يستيقظ (التنين) على زلزال هزّ العالم بأسره، وتمكّنت الصين في غمار انتشار وباء كورونا من أن تستعرض عضلاتها أمام العالم في تحالف صامت مع روسيا وعداء مستتر تجاه الولايات المتحدة الأميركية، مع محاولة لاستمالة الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي، حتى يتغير شكل العالم، ويكون المقعد الصيني جاهزاً لدور جديد، طالما أنكرته بكين عبر العقود الماضية.

 

ثانياً: إنّ الاتحاد الأوروبي هو الخاسر الأكبر في الشهور الأخيرة، فبعد خروج بريطانيا منه تعرّض الاتحاد لأكبر اختبار مرّ به منذ قيامه، وهو الحرب على وباء كورونا، فظهرت هشاشة الارتباط بين دول الاتحاد، وبدا المشهد مؤلماً للأوروبيين على نحو لا يعرف له التاريخ مثيلاً، ولقد تعاطفنا نحن العرب مع دول القارة الأوروبية شركاء التاريخ الطويل، وأصحاب المواجهات مع المشرق عبر القرون الماضية.

 

لكن، لم يكن لدينا ما نقدّمه إلا معونات رمزية محدودة، لأن دورنا في البحث العلمي والاكتشافات البيولوجية ما زال دون المستوى بكثير، ولذلك فإننا نقرع الأجراس من أزمة كورونا لتسمعها كل عاصمة عربية، لأننا مقبلون على مرحلة الانزواء القطري والاهتمام الوطني بالأحوال الداخلية من دون حماس للتجمعات والأحلاف وحتى الاتحادات.

 

ثالثاً: تبدو الولايات المتحدة الأميركية حالياً أمام وضع شديد الصعوبة، لأن الوباء الذي اكتسح العالم نهش أيضاً جزءاً من مكانة الولايات المتحدة الأميركية وقدراتها الطبية، وإمكاناتها الصحية، فلقد اكتشفنا أن لديها مشكلات كامنة تغطيها ترسانة السلاح وعمليات الاستعراض لتقدمها التكنولوجي من وقت إلى آخر، ورغم العزلة التي فرضها ترمب على بلاده فإن سوء الأوضاع الذي ارتبط بالفيروس القاتل ترك آثاراً سلبية تجاه واشنطن، وشعر الكثيرون أن من يتغطّى بالولايات المتحدة الأميركية يصبح عرياناً في أي وقت.

 

رابعاً: إن نظاماً عالمياً جديداً يولد من رحم الأحداث الحالية قد تتهاوى فيه مكانة بعض الدول الكبرى، ويتراجع التفرّد بقوة عظمى وحيدة، ونعود إلى عصر الاستقطاب بين قوى متكافئة في ظل حرب اقتصادية يبدو أنها سوف تبدأ على أنقاض كارثة كورونا، وما تركته من بصمات على خريطة العالم في قاراته الخمس، إننا أمام إعادة ترتيب للأوضاع العالمية قد تبرز فيها نعرات قومية ودرجات من الشيفونية الوطنية، وتسقط تحالفات تقليدية تعوّدنا عليها منذ سنوات بعيدة.

 

خامساً: إن الهدف مما نكتب اليوم هو أن نلفت الأنظار إلى ضعف البنية الاقتصادية بشقيها التعليمي والصحي، وتراجع الأبحاث في الدول العربية وضعف المشاركة التي يمكن أن تُسهم في مواجهة الأوبئة والكوارث، رغم أن لدينا عقولاً مبهرة وعلماء متميزين تستعين بهم الدول الكبرى، وتنظر إليهم باحترام وتقدير، لكن المجالات مغلقة، والطرق ليست مفتوحة، لأننا تعوّدنا أن نكون عالة على الغرب، وعلى الشرق أيضاً في ما يتصل بالأبحاث العلمية والدراسات الطبية، وقد حان الوقت لنظرة عاجلة إلى هذه الثغرة الكبيرة في حياتنا، فالثروة وحدها لا تنفع والأموال من دون معرفة وعلم لا جدوى منها، لذلك فإننا يجب أن نحيل إمكاناتنا العربية إلى قدرات علمية مع توظيفها بحثياً وتطبيقياً والاستفادة من التجارب الأخرى، وما حققته الدول في هذه الميادين.

 

هذه نظرة عاجلة ورؤية شاملة لمستقبل تتشكّل ملامحه في المستقبل القريب، مستقبل سقطت فيه أصنام، وتهاوت منه هياكل تقليدية عشنا في إطارها عبر السنين، وجاء الوقت لنعرف أنّ الأمر مختلف تماماً، وأن العلم هو بوابة التقدم، وهو القوة الحقيقية في هذا الزمان!

نقلاً عن اندبندنت عربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button