تقرير: لماذا لعبت المكسيك دور الشريك المخالف حتى اللحظة الأخيرة في اتفاق “أوبك +” التاريخي؟
النشرة الدولية –
في الساعات الأخيرة من مساء أمس الأحد نجح أخيرًا تحالف “أوبك +” في التوصل إلى اتفاق تاريخي لخفض الإنتاج العالمي من النفط الخام بحوالي 9.7 مليون برميل يوميًا، وذلك بعد ماراثون من المفاوضات والمحادثات الثنائية استمر لنحو أسبوع بين كبار منتجي الخام حول العالم.
وفي أكثر من لحظة خلال المفاوضات كاد الاتفاق ينهار بسبب إصرار المكسيك على عدم الالتزام بحصتها من خفض الإنتاج والبالغة 400 ألف برميل يوميًا، وتمسك كبار منتجي “أوبك” على الناحية الأخرى بضرورة التزام الجميع وعدم فتح الباب لأي استثناءات لما يشكله ذلك من خطورة على صمود الاتفاق في المستقبل.
كان من المتوقع أن يتم حسم الاتفاق في اجتماع الخميس الماضي، ولكن إصرار المكسيك على ألا تخفض إنتاجها بأكثر من 100 ألف برميل يوميًا – وهو ما يعادل ربع حصتها فقط – جعل الاجتماع الوزاري يمتد لأكثر من تسع ساعات، قبل أن تنسحب منه وزيرة الطاقة المكسيكية فجأة بحجة رغبتها في التشاور مع رئيس بلادها وإجراء محادثات منفصلة مع نظيريها الأمريكي والكندي.
غادرت الوزيرة المكسيكية الاجتماع الذي كان يعقد عبر الفيديو بشكل مفاجئ، وتركت الوزراء الحاضرين دون رد واضح حول موقف بلادها النهائي، قبل أن يفاجأ الجميع بتغريدة لها عبر تويتر بعد لحظات من مغادرتها تقول فيها إن المكسيك عرضت على “أوبك +” خفض إنتاجها بواقع 100 ألف برميل يوميًا من 1.781 مليون برميل يوميًا إلى 1.681 برميل يوميًا.
على الجهة الأخرى، انتهى الاجتماع وخرجت دول “أوبك +” التي يبدو أنها لم تكن سعيدة بالتصرف المكسيكي ببيان أصرت فيه على موقفها، حيث أكدت أن الاتفاق النهائي للمجموعة حول حجم تخفيضات الإنتاج تم ولكنه في نفس الوقت يظل مشروطًا بموافقة المكسيك على الالتزام بحصتها من التخفيضات كما فعلت كل الدول المشاركة في الاتفاق. وهكذا ظل مصير الاتفاق معلقًا ولم يحسم إلا في اجتماع أمس.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، ما السبب وراء هذا الموقف المتحجر من جانب المكسيك في المفاوضات؟ لماذا استماتت الدولة اللاتينية بهذا الشكل في الدفاع عن قرارها بعدم خفض إنتاجها بأكثر من 100 ألف برميل يوميًا؟ والإجابة عن هذا السؤال تستدعي إلقاء نظرة سريعة على المشهد السياسي الحالي داخل المكسيك.
في الأول من ديسمبر 2018 تولى اليساري “أندريس مانويل لوبيس أوبرادور” رئاسة المكسيك بعد تمكنه من تحقيق فوز ساحق وبفارق كبير عن أقرب منافسيه. وإلى جانب تعهداته بمحاربة الفساد والتصدي لعصابات المخدرات وعد الرئيس الجديد الناخبين بالسعي لإعادة مجد شركة النفط الوطنية العملاقة “بيميكس” وزيادة إنتاجها الذي يستمر في التراجع منذ سنوات.
أراد “أوبرادور” ببساطة أن يستخدم “بيميكس” كأداة للتنمية الاقتصادية، وفي سعيه لتحقيق ذلك كلف الشركة المملوكة للدولة والمثقلة بديون تقترب من 105 مليارات دولار بتطوير حقول نفطية لا تمتلك القدرة على إدارتها بكفاءة، كما طلب منها إنفاق مليارات الدولارات في بناء مصافي نفط جديدة يمكن القول إن البلاد ليست في حاجة لها.
في توجه يبدو غريبا للغاية ومعاكسا تقريبًا للاتجاهات التي تمضي نحوها الكثير من الدول النفطية في السنوات الأخيرة، يريد “أوبرادور” أن يلعب قطاع الطاقة المكسيكي دور قاطرة التنمية في البلاد، ويرغب في أن يحدث ذلك تحت مظلة الحكومة، وهو ما يتطلب تخليه عن الإصلاحات التي شهدها قطاع الطاقة في عهد سلفه والذي فتح الباب أمام الشركات الخاصة.
إصراره على أن تتوسع “بيميكس” بنفسها في قطاع الطاقة المكسيكي رغم افتقارها إلى الكفاءة الإدارية والدراية التكنولوجية اللازمة أدى إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج مقارنة مع الشركات الخاصة. ورغم ذلك يبدو أنه ماضِ في طريقه على أي حال عازمًا على رفع إنتاج الشركة بما يقرب من 50% بحلول منتصف فترته الرئاسية البالغة 6 سنوات، كما وعد عند توليه لمنصبه.
لم يأبه الرجل بتحذيرات الخبراء والمسؤولين الحكوميين وحتى كبار التنفيذيين السابقين في “بيميكس” حول خطورة هذا المسعى، والذي ظهرت نتائجه الكارثية في فبراير الماضي. فقبل شهرين أعلنت “بيميكس” عن تسجيلها خسارة قدرها 18.3 مليار دولار عن نشاطها خلال عام 2019، وهو ما يقرب من ضعف خسائرها في العام السابق.
بعد مرور ما يقرب من عام ونصف العام على توليه لمنصبه، لم تدفع سياسات الرئيس الجديد “بيميكس” إلى الأمام بل أصبحت الشركة حفرة ضخمة تضيع فيها مليارات الدولارات التي تضخها الدولة فيها بشكل دوري من أجل رفع الإنتاج ببضعة آلاف من البراميل الإضافية المكلفة جدًا.
وفي الآونة الأخيرة وعلى إثر تداعيات فيروس كورونا المستجد، تعالت الأصوات المطالبة لـ”أوبرادور” بتأجيل مشروع بناء مصفاة بقيمة 8 مليارات دولار وتوجيه هذه الأموال بدلًا من ذلك إلى أوجه صرف أخرى من شأنها أن تساعد البلاد على الخروج من الأزمة الحالية، خصوصًا وأن المصافي المكسيكية الموجودة بالفعل تعمل بثلث طاقتها فقط.
ولكن الرئيس المكسيكي رفض بعناد هذه الدعوات وأكد على أن بلاده ستقوم بتكرير 400 ألف برميل من النفط الخام يوميًا حتى لا تهدر نفطها عن طريق تصديره بأسعار منخفضة، وتتوقف عن استيراد الوقود الأمريكي.
ما سبق يوضح ولو قليلًا سبب إصرار المكسيك على موقفها الرافض لخفض إنتاجها بنحو 400 ألف برميل وهو ما يعادل تقريبًا 23% من إنتاجها، وعرضها بدلًا من ذلك تخفيضات قدرها 100 ألف برميل يوميًا أو 5.5% من إنتاجها الإجمالي.
ببساطة يريد الرئيس المكسيكي أن يفي بوعده لناخبيه برفع إنتاج الشركة الوطنية من النفط مهما كانت التكلفة، لأن إدارته لا تبدو مهتمة بأثره الاقتصادي بقدر اهتمامها بأثره السياسي.
هناك معلومة مهمة قد يكون لها أيضًا دور في صياغة الموقف المكسيكي المتشدد. فوفقًا لـ”بلومبرج” لا تبدو المكسيك مكترثة بمصير اتفاق “أوبك +” لأنها تحمي نفسها بالفعل من خطر انهيار الأسعار من خلال عقود التحوط الضخمة التي أبرمتها خلال العام الماضي مع بنوك وول ستريت والتي تضمن لها إنتاجها في العام الجاري.
تمنح عقود التحوط المبرمة المكسيك الحق في بيع إنتاجها النفطي في العام الحالي بسعر يبلغ في المتوسط 49 دولارًا للبرميل، وهو مستوى أعلى بكثير من المستوى الحالي للأسعار. ولذلك لن تتأثر الميزانية المكسيكية لو انهارت أسعار الخام إلى ما دون العشرة دولارات للبرميل، بل على العكس ستحقق مكاسب ضخمة.
فعلى مدار العشرين عامًا الماضية لطالما حمت عقود التحوط المكسيك من التأثيرات المؤلمة لانهيار أسعار الخام. فعندما انهارت أسعار الخام في 2009 حققت البلاد أرباحًا قدرها 5.1 مليار دولار بفضل عقود التحوط، وفي 2015 بلغت عوائدها من ذات العقود حوالي 6.4 مليار دولار.
وتشير حسابات بلومبرج إلى أنه إذا استمرت أسعار الخام عند مستوياتها الحالية حتى نهاية نوفمبر القادم فسوف تدفع البنوك الضامنة لعقود التحوط للمكسيك حوالي 6 مليارات دولار. ولكن هذه تظل في النهاية مجرد تقديرات، حيث إن المكسيك لا تعلن أبدًا عن أي معلومات تتعلق بهذه العقود لأنها تعتبرها سرًا من أسرار الدولة.
بعد فشل اجتماع الخميس الماضي في التوصل إلى صيغة حاسمة للاتفاق مع المكسيك دخل الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على الخط ولعب دور حمامة السلام. ففي صباح الجمعة الماضي خرج الرئيس المكسيكي ليصرح قائلًا إن ترامب عرض “بسخاء” أن تتحمل الولايات المتحدة تخفيضات تتراوح ما بين 250 و300 ألف برميل يوميًا بدلًا من بلاده لمساعدتها على الإيفاء بمتطلبات “أوبك +”.
ثم سرد “أوبرادور” جزءًا من كواليس حديثه الهاتفي مع ترامب، موضحًا أن الأخير قام خلال الاتصال بقراءة أسماء جميع الدول التي وافقت على اتفاق “أوبك +” في اجتماع الخميس قبل أن يسأله قائلًا: “لماذا لم توافق المكسيك؟”. قال الرئيس المكسيكي لقد قدمت إليه اقتراحًا، وهو أن تتحمل الولايات المتحدة الجزء المتبقي، ولحسن الحظ أنه قبله وأشكره على ذلك.”
هذه التصريحات أثارت استغراب الكثير من العامة قبل الخبراء، وأصبح السؤال الذي يشغل بال الجميع: منذ متى والولايات المتحدة تشارك في تخفيضات الإنتاج. فعلى مدار السنوات الثلاث الماضية تحملت كل من “أوبك” وحلفائها من خارج المنظمة وحدهم أعباء خفض الإنتاج، بينما امتنعت واشنطن عن المشاركة متعللة بعدم قدرتها على التحكم في إنتاج شركاتها النفطية.
ما الذي تغير الآن؟ حرفيًا، لا شيء على الإطلاق. ببساطة، لا يملك ترامب السلطة التي تخول له التحكم في حجم إنتاج منتجي النفط الأمريكيين، خصوصًا وأن أغلبهم مستقلون. على الجهة الأخرى، تحول قوانين مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة دون تنسيق المنتجين مع بعضهم البعض بخصوص حجم الإنتاج لأن هذا يعد شكلا من أشكال التلاعب بالأسعار.
ولكن هذه الحقائق لم تمنع الرئيس الأمريكي من الخروج في نفس اليوم في مؤتمر صحفي ليؤكد تصريحات نظيره المكسيكي. حل “ترامب” اللغز حين أشار إلى أن التخفيضات التي شهدها إنتاج الشركات الأمريكية بالفعل خلال الفترة الأخيرة على وقع انهيار الأسعار يمكن لـ”أوبك +” اعتبارها مساهمة من جانب الولايات المتحدة في خفض الإنتاج بدلًا من الجزء الذي ترفض المكسيك تحمله.
وبروح رجل الأعمال قال ترامب في نفس المؤتمر بعد تعهده بتحمل بلاده للجزء المتبقي من تخفيضات المكسيك إن “الولايات المتحدة ستساعد المكسيك على الدوام، وسوف يعوضنا المكسيكيون عن تلك المساعدة في وقت لاحق حينما يتسنى لهم ذلك”.
في لمح البصر أصبح لـ”ترامب” دين في رقبة المكسيك سيطالبها برده في المستقبل رغم أنه في حقيقة الأمر لم يعطها أو لم يعط غيرها أي شيء!
في اجتماع الأحد، وحرصًا منها على حسم الأمور قبل انطلاق تداولات الإثنين، اتفقت دول “أوبك +” على إتمام الاتفاق رغم عدم تغير موقف المكسيك التي لا يشكل إنتاجها سوى جزء ضئيل من المعروض العالمي. ولا يرجح الخبراء أن يكون لوعد ترامب بتحمل نصيب المكسيك أي تأثير على قرار “أوبك +” لأنه في النهاية المطاف… ما قيمة وعد ترامب؟