عندما يعجز الصحافيون عن الحصول على المعلومات يكتفون بتبادلها* كرم نعمة

النشرة الدولية –

ليس الصحافيون وحدهم من يعيشون الحيرة المتصاعدة والمستمرة من دون أن يعرف العالم سيناريو نهاية محتملة، لكن حيرة الصحافيين تصبح مضاعفة عندما ينتظر منهم الجمهور معلومة باعتبارهم المصدر الموثوق أكثر من الحكومات.

 

هنا تكمن مهمة الصحافيين في عالم تم فيه التعامل مع الحقائق على أنها اختيارية، الصحافيون وجدوا أنفسهم فجأة كأي طرف آخر في معادلة تبادل المعلومات بين الأطراف المختلفة، بعد أن كانوا يتحينون الفرص للحصول عليها. تلك معادلة جديدة تعيشها الصحافة في زمن ليس عادلا بحقها عندما تتراجع فرص الصحافيين بالحصول على الأخبار، ويكتفون بتبادلها.

 

الصحافي ليس كأي مُستقبل للمعلومة من المرسل، بل يتحتم عليه الحصول على المعلومة وإعادة صناعتها وفق تعريف اللورد نورثكليف مؤسس صحيفة ديلي ميل قبل قرن تقريبا، حين اعتبر أن الأخبار معلومات يريد أحدهم منع الناس من معرفتها، وما تبقى هو مجرد إعلانات.

 

في الماضي غير البعيد، كانت وسائل الإعلام موجودة للدفاع عن جمهورها، كما بيّنت بيت هاميل في كتابها “الأخبار فعل”، ومع ذلك لم يتغير التعريف الكلاسيكي للأخبار وبقي كما هو، فيما تراجع تأثيرها. اليوم انتشار الوباء بشكل عشوائي وتغيير طبيعة انسيابية العالم أعادا الأهمية للأخبار بالنسبة إلى الجمهور، لكن لسوء حظ الصحافة مرة أخرى، أن الصحافيين في زمن كورونا عاجزون عن الحصول عليها وهم يتشبثون بأجهزتهم مثل أي متابع آخر!

 

لقد اعتدنا على التفكير في المستقبل بشأن ما قد يتغير بعد ترويض الوباء، لذلك تطالبنا إميلي بيل مديرة مركز الصحافة الرقمية في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا، باستبدال ما أسمته العلاقة الصامتة التي أوجدها فايروس كورونا بين وسائل الإعلام والحكومات، وإنقاذها من “مسرح البانتوميم” عبر جرعة أكبر من الكلام الواقعي.

 

هذا يعني أن الصحافة تعيش أصعب الاختبارات في تاريخها وهي تربض مثل كل الناس في الحجر المنزلي، كيف يمكنها حث السياسيين على التخطيط  لمواجهة الكوارث التي لم تأت، بعد أن تأخرت في استيعاب خطورة انتشار الوباء على الحياة برمتها؟

 

ثمة الكثير مما يضمره المستقبل للعالم، ويجب على الصحافة أن تكون أول من ينتبه له، فهل بمقدورها أن تعيد الأنظار إليها من جديد؟ ذلك هو الاختبار.

 

وبطبيعة الحال أن غالبية الحكومات، حتى الديمقراطية منها، تستغل فرصة الوباء لانتزاع سلطات استثنائية من وسائل الإعلام، وهي في ذلك لا تستهدف الأخبار المزيفة بقدر ما تعصف بأي نقد حيال الرعاية الصحية ونقص المستلزمات الضرورية في المستشفيات. بل إن فرصة الحكومات مواتية اليوم لخنق حرية التعبير وحصر المعلومات بيدها وجعل الصحافة تدور منصاعة في فلكها.

 

الأمر الذي يدفع كاس مود، الكاتب في صحيفة الغارديان وأستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورجيا، إلى التحذير من التضحية بحرية الرأي حتى في وقت المعركة الشرسة مع وباء كورونا. لأن هذه الحرية “هي أول الضحايا في أوقات الأزمات”.

 

ويدعونا مود، الذي صدر له مؤخرا كتاب “اليمين المتطرف اليوم”، إلى ألا ندع حرية التعبير تسقط ضحية لفايروس كورونا. نحن بحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى. فالأخبار قيّمة ومن المناسب توقّع أن يتم تقييمها، وفق تعبير ديفيد تشافيرن الرئيس التنفيذي لتحالف شبكات إخبارية في الولايات المتحدة.

 

ويكتب مود “بما أن دونالد ترامب أضفى شعبية على مصطلح الأخبار الكاذبة، فلا ينبغي أن يكون من المستغرب أن يتبنى الشعبويون في السلطة، بحماس، المعركة ضد الأخبار المزيفة. والآن منحهم فايروس كورونا فرصة لتكثيف تلك المعركة من خلال تمرير قوانين صارمة جديدة، بزعم منع الأخبار المزيفة من زيادة تفاقم الأزمة”.

 

ويحذر من أن هذا الأمر لا يقل خطورة عن أزمة كورونا نفسها في الديمقراطيات الكبرى، فكيف يبدو الحال في الدول المقيدة بالحكومات الفاسدة وتعيش شعوبها تحت وطأة انتشار الفايروس وانهيار الأنظمة الصحية وتراجع الصحافة فيها.

 

هذا الأسبوع أوقف ترخيص عمل وكالة رويترز في العراق، على خلفية نشرها خبرًا اتهمت فيه سلطات البلاد بإخفاء الأرقام الحقيقية لمصابي فايروس كورونا.

 

ونشرت الوكالة خبرًا عن مسؤولين عراقيين، قالت فيه إن هناك آلاف الحالات المصابة بكورونا في العراق، وأن الحكومة أخفت الأعداد وطلبت من الكوادر الطبية عدم التحدث مع الإعلام حولها. لكن الحكومة نفسها التي تشن معركتها على الصحافة عاجزة عن الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بانتشار الوباء.

 

وقبلها نشبت أزمة دبلوماسية بين إيطاليا وروسيا لمجرد أن صحيفة “لا ستامبا” الإيطالية شككت في أهمية المساعدة الروسية لإيطاليا بشأن تقديم معدات طبية تعالج فايروس كورونا.

 

وفي كل الذي يحدث أن الحكومات تريد منع الصحافة من كتابة مسودة التاريخ بشأن كورونا، وتجعلها مجرد ناقل لما تود إعلانه للناس وللأجيال المقبلة.

 

ضرر الوباء لا يقتصر على فئة دون غيرها في العالم، والصحافة تدرك أنها صوت هذا العالم، وتعيش الضرر نفسه، لكنها لا تقبل وفق جوهرها أن تكون متواطئة ومنصاعة لرغبة الحكومات بإخفاء حقائق ما يجري، في وقت عليها أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية بدعم السلطات بأقصى قدر من أجل إنقاذ الناس. في المقابل فإن التجربة الطويلة علمت الصحافة أن الحكومة ليست ضامنا محبا وعطوفا كبيرا يعمل للصالح العام، وتقوم بالأمر الصحيح دائما، بل تعمل من أجل أن تتمكن من فرض سيطرتها ومنع الصحافة من الحصول على المعلومات التي ينتظرها الناس.

 

ما أريد قوله هو أن المعلومات التي تتوفر لدينا عن أنفسنا كأفراد وجماعات وحشود وعوام عندما تترك للحكومات وحدها من دون أن تمر على مجهر صحافة مخلصة لقيمها، يجري استخدامها بوعي وعن قصد من جانب خبراء توظفهم كل حكومات العالم تقريبا -حسب تأكيد حكيمة الأفكار الروائية الراحلة دوريس ليسنغ- لإدارة رعاياها بمكر ودهاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى