كارنتان 20* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

منذ أيام قليلة وصلت إلى البيت رسالة مجهولة المصدر وغريبة، وغرابتها تكمن في أنها لا تحمل اسم المرسل من الخارج أو شعاره كما هو معتاد مع باقي مراسلات المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، كما أنها موجهة لابني الصغير ذي الأربعة عشر عاما، وهو ما لا يحدث إلا نادرا ومن جهات معروفة، ثم إن هذه الرسالة اللغز وضعتني في موقف غريب أيضا وفي حيرة من أمري: هل أفتحها بنفسي طالما أنها رسالة مريبة ومثيرة للفضول لأتأكد مما بداخلها قبل أن أسلمها لابني أم ألتزم بقوانين التربية الصحيحة وبعامل الخصوصية وأوصلها لابني مغلقة ليفتحها بنفسه؟

قررت في النهاية أن أحملها إليه مغلقة وأن أشرح له الأمر وأطلب منه أن يفتحها أمامي وهو ما حصل بالفعل وكانت المفاجأة لكلينا: وجدنا داخلها كارت عادي عليه صورة زهرة عباد شمس، وقد ألصقت على ظهره أربع بذور صغيرة لعباد شمس بالشريط اللاصق.

قرأنا ما هو مكتوب ليتضح أن الرسالة من بلدية المدينة التي نسكنها، وأن عمدة المدينة أراد أن يساهم في شغل وتسلية الأطفال الذين يجلسون في البيوت بسبب فايروس كورونا، فابتكر لهم مسابقة طريفة، وهي أن يزرع كل أطفال المدينة زهرة عباد شمس ويعطوها اسما، ثم يلتحقون بصفحة على الإنترنت أنشئت للغرض ليتابعوا آخر تطورات الزراعة في ما بينهم ويتبادلوا الأفكار ويطرحوا أسئلتهم ويخبروا عن الزهرة، في النهاية ستكون هناك مسابقة لاختيار أجمل وأطول زهرة وسيستقبل العمدة صاحبها في مكتبه بعد أن يسمح بتبادل الزيارات ويسلمه الجائزة.

زهرة عباد الشمس تشبه الضوء بلونها الأصفر القاني، وتشبه الأمل في قامتها وكبريائها، وتشبه الوقت في نموها الصامت، كما أنها لا تأخذ مساحة كبيرة من التراب، ويمكن لمن لا يملكون حديقة أن يزرعوها في الأصص والبلكونات، وحتى وإن لم تكن هناك بلكونة فهذه زهرة الضوء، والضوء في كل مكان من قلوبنا.

ستكبر الحياة أمامنا كل يوم ونرى عنقها يرتفع ويرتفع حتى يصل إلى مستوى أعناقنا، وسنقف يوما أمامها وجها لوجه ناظرين بأعيننا في أعينها وربما نحتضنها ونقول لها: مرحبا أيتها الحياة، كم أنت جميلة وكم افتقدناك

بقينا يوما كاملا نفكر في اسم للزهرة: قررنا أن يكون اسما مرفقا برقم! لماذا رقم؟ ربما بسبب اكتشافنا المفاجئ لسطوة الأرقام من خلال رقم 19 الذي يثير الفزع في العالم هذه الأيام. قال ابني إن رقمه المفضل 24 وقلت إن رقمي المفضل هو20، واستقر رأينا على رقم 20، فسميناها “كارانتان 20”. ابتهجنا للاسم ولجماله وشعرنا أن الزهرة ستكون في مستوى اسمها وربما أعلى. أخيرا وضعنا البذور في الأرض، في مكان تصله الشمس طول النهار، غطيناها بقليل من التراب، سقيناها ماء، وها نحن ننتظر.

ما الذي ننتظره بالضبط؟ أن تنمو الزهرة؟ أن تحصل على الجائزة الأكبر ونلتقي العمدة في مكتبه؟ أن تنتهي فترة الجلوس المملة في البيت ونعود لنرى أصدقاءنا وأحبتنا؟ أن تعود المدرسة إلى فتح أبوابها كل صباح واستقبال الأطفال وهم يتدافعون ويتقافزون؟

إننا ننتظر كل ذلك مجتمعا، ننتظر أن تعود الحياة لتطل برأسها رويدا رويدا من تحت الأنقاض، تدفع الغبار عن أكتافها بيدين هشتين، وشيئا فشيئا تبدأ في التنفس واستقبال الضوء والهواء، رافعة رأسها باتجاه السماء، وستكبر الحياة أمامنا كل يوم ونرى عنقها يرتفع ويرتفع حتى يصل إلى مستوى أعناقنا، وسنقف يوما أمامها وجها لوجه ناظرين بأعيننا في أعينها مادين لها أيدينا لنصافحها أو ربما نحتضنها ونقول لها: مرحبا أيتها الحياة، كم أنت جميلة وكم افتقدناك!

كارنتان 20 لا تزال اليوم تحت التراب، لكننا نذهب لنتفقدها كل يوم، نتحلق حولها لبعض الوقت ونتحدث عن المرض وتاريخ الإنسانية مع الأوبئة وعدد الذين قضوا خلالها، وتجربتنا الفريدة مع هذا الوباء التي لن تتكرر مرة أخرى ربما.

نتحدث عما سيرويه أبناؤنا الصغار لأبنائهم بعد عشرين عاما، وكيف سيخبرونهم أنهم جلسوا في البيوت أشهرا طويلة من دون مدرسة كما أخبرنا آباؤنا عن الحرب التي دفعتهم للاختباء في دهاليز تحت الأرض، ونتخيل الأعين الصغيرة التي ستنفتح من الدهشة والاستغراب قبل أن تحني رأسها إلى أسفل وتفكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى