في انتظار الفوضى القادمة
بقلم: رجا طلب

النشرة الدولية –

الخلل المتوقع في العلاقة بين العملاقين الاقتصاديين أمريكا والصين سيترك أثره الكبير على العالم الذي سيندفع نحو حالة من عدم الاستقرار السياسي – الاقتصادي والذي بدوره سيدفع بالعالم إلى مرحلة من الفوضى قد تمتد لعقد من الزمن و أكثر قليلاً

يُجمع العالم على نقطتين اثنتين في تداوله لتطورات فيروس كورونا، الأولى أن عالم ما قبل كورونا ليس كما بعده، والنقطة الثانية أن هناك عالماً جديداً دخل طور التشكل على مستويات عدة، منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ببعده السلوكي والقيمي والعادات والتقاليد.

ويرى بعض المفكرين والفلاسفة والكتاب أن العالم الجديد الذي دخل طور التشكل سيكون بمثابة نظام عالمي جديد بالمفهوم السياسي البحت على غرار عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى أو العالمية الثانية أو عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة. غير أني استبعد تماماً تشكل أي نظام جديد للعالم في المدى القريب والمتوسط وذلك لسببين، الأول أن الأنظمة العالمية السابقة جاءت كنتيجة لحروب بين دول وجيوش انتصر فيها طرف أو أطراف على أطراف أخرى وفرض المنتصرون شروطهم على المهزومين وتم وبالتوافق تقاسم الغنائم بين مكونات الطرف المنتصر، كما رُسمت خرائط النفوذ ومن أبرز الأمثلة على ذلك اتفاق يالطا بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت بانتصار الحلفاء على ألمانيا وإيطاليا واليابان، وقُسم العالم إلى معسكرين اثنين، المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة.
وحتى عندما حاول كل من رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو والرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس اليوغوسلافي جوزيف تيتو شق طريق ثالث يرسم مصالح دول العالم الثالث بعيداً عن تلك الثنائية القطبية فشلت التجربة وسقطت الفكرة وذلك لعجز الدول الأعضاء في حركة عدم الانحياز من تحصين نفسها من التبعية أو حماية مصالحها بعيداً عن أحد القطبين الكبيرين.

ما يجرى اليوم في فضاء هذا العالم هو نوع جديد من الحروب لم تألفه البشرية التي تعيش عصراً غير مسبوق في تاريخها من حيث القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والتقدم المذهل في عالم المواصلات وعالم الاتصلات وتحديداً عالم تكنولوجيا المعلومات التي حولت وبالفعل العالم إلى بيت صغير وليس قرية صغيرة كما يحلو للبعض تسميته، حيث تقلص الزمن بتقلص المسافات.

تلك الميزات التي أشرت إليها هي بحد ذاتها “القوة الكامنة” في فيروس كورونا الذي امتلك قدرة عجائبية في الوصول لكل العالم ولكل البشرية خلال اشهر قليلة، وتوحد هذا العالم على وقع زلزال كورونا باعتباره عدواً لكل إنسان على هذه الأرض، ورغم هذا التحدي الجبار فإن هذه الحرب غير المسبوقة مع الفايروس لم تنته ولم ينتصر العالم بعد، وحتى وان انتصر بإيجاد اللقاح الذي يُحصن الإنسانية من بلاء هذا الوباء.

فالنتيجة التي باتت واضحة وضوح الشمس أن العالم بعد كورونا سيفشل في تكوين منظومة مصالح أو قواعد وأسس جديدة لعالم منظم ومتعاون تديره الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية كما اعتقد البعض من الساسة والمفكرين المتفائلين، بل على العكس تماماً فان فيروس كورونا عمق الشروخ التي كانت تعتري بعض التحالفات في العالم والتي كانت تلك التحالفات تحاول تجاهلها وغض النظر عنها.

كما زاد كورونا من حالة الهلع لدى الكثير من الدول والأنظمة التى رات أن “أنانيتها” هي وسيلتها المثالية لحماية نفسها، كما غذى كورونا منسوب العدائية السياسية لدى الدول المتناقضة اصلاً سياسياً واقتصادياً. ولو أردت الإشارة وبالأمثلة إلى ما سبق سنجد أمثلة كثيرة وتحديداً في دول الاتحاد الأوروبي وعودة انقسامه لعالمين، شرقي يضم دول أوروبا الشرقية زمن الحرب الباردة، وغربي يضم دول أوروبا الغربية، هذا عدا فشل تلك المنظومة مجتمعة (الاتحاد الاوروبي ) في التعاون للوصول إلى آلية مشتركة لمواجهة الوباء بحيث ذهبت كل دولة لمعالجة أزمتها مع الفايروس بمفردها وعلى طريقتها الخاصة بعد أن تخلت دول الاتحاد بشكل فاضح عن دعم إيطاليا وإسبانيا. هذا عدا التدهور المريع الذي أصاب علاقات دول أوروبا بواشنطن والتي بدورها غرقت في أزمتها غير عابئة بالحلفاء في “القارة العجوز”، وذهبت إلى تصدير إزمتها إلى الخارج باتهاماتها المتكررة للصين (تسمية كورونا بالفيروس الصيني) واتهامها لمنظمة الصحة العالمية بالتواطؤ مع بكين في ظرف سياسي قاتل يتمثل ببدء العد العكسي لموعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

سيتجه عالم ما بعد كورونا نحو حرب باردة جديدة ستأخذ طابعاً اقتصادياً، أدواتها الاستثمار والطاقة وبخاصة بين الصين والولايات المتحدة والتي يمكن أن تتطور إلى مواجهات عسكرية محدودة عبر وكلاء البلدين في شرق آسيا، وهي مرحلة ستنهى بالضرورة 48 عاماً من التفاهم التاريخي بين الزعيم الصيني ماو تسي تونغ والرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون وهو التفاهم الذي لعب دوراً كبيراً في إبعاد الصين عن الاتحاد السوفياتي وتحييدها خلال احتدام الحرب الباردة ووفر لها عبر تلك السنوات الطويلة ميزة أن تكون “سوق العالم” ، وأن تصبح “وطناً” للاستثمارات الأمريكية.

ان الخلل المتوقع في العلاقة بين العملاقين الاقتصاديين أمريكا والصين سيترك أثره الكبير على العالم الذي سيندفع نحو حالة من عدم الاستقرار السياسي – الاقتصادي والذي بدوره سيدفع بالعالم إلى مرحلة من الفوضى قد تمتد لعقد من الزمن و أكثر قليلاً .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى