نسامح وننسى…؟ لا نسامح… ولا ننسى!
النشرة الدولية –
جريدة الناس نيوز الأسترالية –
ريما بالي
استقبل العالم رمضان منذ أيام قليلة، بطقوسه المحببة وولائمه، وفوانيسه وكعكه المعروك، ومسلسلاته الدرامية التي تزاحم بعضها على القنوات التلفزيونية.
كما عاد الكل يلهج بالفضائل والقيم الجميلة الراقية التي يدعو إليها الشهر الفضيل، وأهمها الغفران والتسامح.
وعن الغفران والتسامح! تلفتتني منذ فترة من الزمان، نسخة محدّثة وعصرية عنهما، كثر انتشارها ولم أعرف من صاحبها الأصلي (رغم بحثي في الشبكة الإلكترونية)، وإن كنت أجزم أنه أحد السياسيين أو الدبلوماسيين المخضرمين.
“نسامح ولكن لا ننسى!”
تلك هي، الجملة التي راقت للكثيرين من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فأعادوا نشرها بكل إباء وشمم، وهم يتخيلون أنفسهم مكان القائل، ضحية بريئة نُكّل بها، وهي ملاك بأجنحة شفافة، وحكيم عميق الفكر عزيز النفس، يغار على كرامته فلا ينسى الإساءة، لكنه طيب القلب فيسامح… يسامح.. لكن… لا ينسى! .
أما أنا وبكل تواضع، فإن عقلي الصغير لا يستوعب هذه المعادلة! عندما أقرأ تلك الجملة، لا أتخيل إلا شخصا داهية يبتسم باصفرار في وجه من كان قد أخطأ بحقه، يصافحه ببرود ويصفعه بنظرة ثاقبة تقول له بصمت: “هيه أنت… أنا شايفك بس عايفك”.
لست في أسطري هذه بصدد الترويج للغفران والتسامح، ولا أنوي أن أنتحل دور الداعية الذي يحث الناس عليهما، كما لا أقصد أن أحرض على عكسهما، ليست هذه قضيتي، إنما أنا فقط…أحببت أن أفضفض، لأشرح انطباعي عن ذلك المفهوم العصري للتسامح، الذي ابتكره كما أتخيل دبلوماسي محنك.
نسامح.. لكن.. لا ننسى!
تلك الـ “لكن” التي تفصل بين الفعلين: التسامح واللا نسيان، تذكرني بجملة بديعة أسرتني بسحرها منذ أن سمعتها للمرة الأولى: “كل الكلمات التي تسبق كلمة لكن في جملة ما.. لا معنى لها”. الجملة من حوار المسلسل الشهير “صراع العروش” الذي شارك بكتابته ديفيد بينيوف ودانيال وايز وآخرون، والمقتبس من إحدى روايات سلسلة “أغنية الجليد والنار” للكاتب الأمريكي جورج .ر. مارتن.
لا تغادر هذه الجملة ذهني، تقفز ساخرة بابتسامة خبيثة، مذكرة إياي بفحواها كلما فكرت في قضية معينة أو كتبت عن مسألة ما مستعملة كلمة “لكن” للفصل بين كلمتين أو جملتين أو فكرتين هما طرفي نقيض، لأوحد شتاتهما وأصالحهما وأصل ما انقطع بينهما، أوافق على الثانية دون أن أرفض الأولى، معتبرة هذه الـ “لكن” اليد التي تمسك العصا من منتصفها. تقفز الجملة الذكية الشقية في رأسي لتسألني: “جميل هذا الكلام ولكن (انتبهوا إلى لكن) بيني وبينك…أي نصف من الجملة يحمل الحقيقة الصرفة؟”.
علمتنا الحياة أن الحقيقة نسبية، وقد تحمل أكثر من وجه، وأن إدراكها صرفة وكاملة حلم قد يقارب المستحيل، ولكن (لكن أخرى!) هل تنطبق هذه المعلومة على مفهوم التسامح؟
نسامح لكن لا ننسى…هل يعقل؟
من جهة أولى كيف تَصْدُق مسامحتنا بدون نسيان؟ أو حتى النية على النسيان؟ هل نتجرد من مشاعرنا؟ نتذكر الألم ونكرسه ثم نصافح اليد التي آلمتنا؟ ومن جهة أخرى، أليست المجاهرة بعدم النسيان، تهديد خفي، ووعد مبطن بالانتقام يوماً ما؟
يقول كريستوفر شولز: “التسامح أرقى أنواع النسيان”. وأنا أؤمن بهذه المقولة التي تثبت أن التسامح والنسيان هما شيء واحد، وأن لا تسامح بدون نسيان.
لا تستطيع أن تنسى؟ حقك.. ولكن (كمان لكن) لا تدّعي المسامحة… انزع هالة الملائكة عن رأسك ودعها لمن يقدر على النسيان.
قال غاندي: لا أحب كلمة تسامح.. لكني لا أجد أفضل منها.
وأنا أيضاً، لا أحب كلمة تسامح، خصوصاً عندما تستعمل في مصطلح: تسامح ديني أو تسامح فكري، كأن اختلاف الآخر بدينه أو فكره عني هو خطيئة تستوجب السماح والغفران.
وأيضاً لا أحب كلمة تسامح عندما لا يرافقها النسيان، عندما لا يرافقها العدل، عندما تستعمل نفاقاً، وسياسةً، وتجميلاَ.
يقول أمل دنقل:
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس فوق دمائي ثياباً مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
لا أتخيل أمل دنقل يقول: “صالح… لكن لا تنس”. ولو قال ذلك.. فلن أصدقه!
وأختم برائعة فيروز: انسى… كيف؟
“برد… وما أقدر أغفى… صَوّر على الحيطان… شمس كبيرة بهالليل… وأقعد حدا لأدفى.. وانسى؟”.
أنا عن نفسي… وعن أطرافي التي تجمدت من البرد… وعن أحبائي المتعبين… وعن مدينتي التي ابتلعها الظلام… قد لا أسامح… قد لا أنسى .