ضغوط متزايدة على عملات الأسواق الناشئة
النشرة الدولية –
حظيت الاقتصادات الناشئة باهتمام الخبراء خلال الجدل الاقتصادي الدائر بشأن جائحة فيروس كورونا، وعلى غرار الاقتصاد العالمي فإن أداء مؤشرات الأسواق الناشئة يشير إلى تدهور عميق فيها، وربما يتجلى أبرز مظاهره في الهرب الكثيف لرؤوس الأموال الأجنبية، حيث يسعى المستثمرون إلى الاستثمار في أصول الملاذات الآمنة.
وزاد الوضع تدهورا مع انهيار أسعار عديد من السلع الأولية والمواد الخام التي تمثل العصب الرئيس لصادرات تلك الاقتصادات، لكن المشكلة الأكثر خطورة من وجهة نظر البعض أن الوضع الراهن ليس أكثر من بداية لعاصفة اقتصادية، قد تكون أكثر قسوة على الاقتصادات الناشئة التي لا تتمتع بمساحة كبيرة للمناورة المالية والنقدية مقارنة بالاقتصادات عالية التطور، ويزداد الوضع توترا عندما نأخذ في الحسبان التحديات الراهنة التي تواجهها عملات الأسواق الصاعدة.
وتظهر البيانات الدولية أن عملات الأسواق الناشئة تواجه مزيدا من عمليات البيع التي وصلت إلى نحو 30 في المائة نتيجة تفشي فيروس كورونا، وانخفاض أسعار الأسهم الأمريكية، وتشير البيانات إلى أن الدولار الأمريكي قد يقوى وضعه أمام عديد من العملات الناشئة من بينها الروبل الروسي بنسبة 30 في المائة و23 في المائة في مواجهة البيزو التشيلي.
ومع هذا، يرى مارت دبن الباحث في بنك إنجلترا أن تدهور عملات الاقتصادات الناشئة سيختلف من اقتصاد إلى آخر وفقا للوضع الاقتصادي للدولة قبل جائحة كورونا.
وأضاف لـ”الاقتصادية”، أن “عملات الدول التي تعاني عجزا في الحساب الجاري والأسواق المالية لديها متعثرة نسبيا قبل تفشي الفيروس ستتراجع بشدة في مواجهة الدولار، وأغلب تلك الاقتصادات يتركز في أمريكا الجنوبية إضافة إلى إندونيسيا والهند وجنوب إفريقيا وتركيا، وعلى النفيض من ذلك الاقتصادات ذات الفوائض المالية الضخمة، فإن عملتها لن تشهد تراجعا حادا في مواجهة الدولار أو العملات الدولية الأخرى”.
ولا تعكس الاختلافات بين الدول في انخفاض أسعار الصرف نقاط الضعف الخاصة فقط بكل دولة، لكنها تعكس أيضا تباين أنظمة سعر الصرف لديها، فالدول التي لديها أسعار صرف ثابته أو تعويم يتم التحكم فيه لم تسجل تغيرات كبيرة في أسعار صرف عملاتها، أو سجلت تغيرات طفيفة للغاية وغير محسوسة، وتعد دول الخليج العربي وعديد من الدول الآسيوية نموذجا لذلك.
على العكس تماما، الاقتصادات التي تتمتع أسعار الصرف لديها بحرية تامة وفقا للعرض والطلب، فإن عملتها تدهورت بشكل كبير خاصة في مواجهة الدولار، وتأتي في المقدمة وفقا لتحليلات “بلومبيرج” العملة التركية التي يعتقد أن لديها أكبر انخفاض متوقع في مواجهة الدولار بين 34 عملة للاقتصادات الناشئة، وربما يكون هذا السبب تحديدا هو ما دفع بالسلطات التركية إلى مواصلة السماح بتداول العملات لكن بدرجة أقل من الحرية عما كان عليه الأمر سابقا، على أمل أن يسهم ذلك في الحد من الخسائر نسبيا.
وتقول لـ”الاقتصادية”، الدكتورة فلورينس نايت أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة ليدز “مخاطر الوضع المضطرب لأسعار العملات في الاقتصادات الناشئة تكمن في أنه يزيد من حدة الضغوط التضخمية على تلك الاقتصادات، ما قد يترك أيضا بصمات سلبية على قدرتها على جذب رؤوس الأموال الأجنبية مستقبلا”.
وتضيف فلورينس “كما أن هذا الاضطراب وما يحمله من تراجع في مواجهة الدولار سيزيد من عبء المديونية على تلك الدول وعلى شركات القطاع الخاص فيها تحديدا، ما سيحد من معدلات النمو، ولتفادي هذا الوضع تعمل البنوك المركزية في معظم الاقتصادات الناشئة على استخدام احتياطياتها المالية لوقف الانخفاض الراهن في قيمة عملتها، خاصة مع اندفاع المستثمرين إلى الدولار وسندات الخزانة الأمريكية باعتبارهما ملاذا آمنا”.
وتشير فلورينس إلى أنه “على الرغم من أن بيانات البنوك المركزية للاقتصادات الناشئة تظهر أن لديها احتياطيات مالية أكبر مما كانت عليه خلال الأزمة المالية لعام 2008، فإن عدم استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلي يثير مخاوف من أن مخططات البنوك المركزية باستخدام الاحتياطيات المالية لديها قد يعني عمليا استنزاف تلك الاحتياطيات دون تحقيق نتائج ملموسة بالحد من تدهور العملات الوطنية”.
وتعتقد نيتا آندرسون الخبيرة الاستثمارية أن الاحتياطيات النقدية في بعض الدول مثل البرازيل وتركيا تنزلق إلى حافة الخطر في محاولة لإنقاذ العملة الوطنية من مزيد من التدهور المستقبلي.
وتضيف لـ”الاقتصادية” “التوقعات بأن هذا الوباء سيسبب ركودا عالميا يزيد من خطر هرب رؤوس الأموال، وسيضعف هذا الروابط القائمة بين تلك الأسواق والأسواق العالمية، ويمكن أن نشهد ذلك في كوريا الجنوبية والبرازيل وتركيا، حيث قلصت الصناديق العالمية استثماراتها في الأسهم في تلك الدول، وقامت ببيع أسهمها في دول مثل إندونيسيا والهند، تقليص الروابط ينعكس بشكل مباشر على أسهم الاقتصادات الناشئة حيث تفقد جاذبيتها في أعين المستثمرين الأجانب، هذا يوجد من جانبه شعورا لدى المستثمرين المحليين أيضا والمدخرين الوطنيين بأن العملة المحلية غير مرغوبة دوليا، ما يزيد الطلب على العملات الأجنبية تحديدا الدولار، وبذلك يزداد الموقف سوءا”.
وتنوه نيتا بأنه غالبا ما تلجأ الحكومات في تلك الأوضاع إلى التدخل عبر فرض قيود على التعامل بالعملات الأجنبية، وهذا يضعف من تطور السوق المحلية على الأمد الطويل.
وإضافة إلى تلك المخاوف يخشى المستثمرون في عملات الأسواق الناشئة من أن تبدأ البنوك المركزية في تلك الدول في تخفيض أسعار الفائدة الخاصة بها، كوسيلة لحماية اقتصاداتها الوطنية من التباطؤ العالمي المحتمل، ويمكن أن يؤثر ذلك في عملاتها من خلال تضييق الفجوة في العوائد بين الأصول في الأسواق الناشئة وتلك الموجودة في الأسواق المتقدمة.
ويستبعد أغلب الخبراء المصرفيين أن تقوم الأسواق الناشئة برفع أسعار الفائدة البنكية كوسيلة لجذب الاستثمارات الأجنبية، في ظل انخفاض أسعار الفائدة في الدول المتقدمة، إذ سيزيد هذا الإجراء من الأصول الأجنبية في بنوكها الوطنية، لكنه سيرفع بشدة من التكلفة الإنتاجية، ويضعف بشكل ملحوظ قدرتها على تحسين الصادرات.
ويعرب جون آستوب الخبير المصرفي في مجموعة نيت ويست المصرفية عن مخاوفه من أن تشهد المرحلة التالية بعد التغلب على فيروس كورونا حرب عملات بين الاقتصادات الناشئة، وعلى الرغم من أن حدة حرب مثل تلك وتأثيرها في الاقتصاد العالمي لن يكون بالتأثير السلبي ذاته لحرب عملات بين الاقتصادات المتقدمة، لكنها إذا ما اندلعت فستعوق عمليا أي جهود دولية لتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة.
ويضيف لـ”الاقتصادية”، أن “الركود الاقتصادي وما يصاحبه من معدلات بطالة مرتفعة، وما تمثله البطالة من ضغوط اجتماعية حادة، سيدفعان جميع الاقتصادات – وفي مقدمتها الاقتصادات الناشئة – إلى أن تتبنى نهجا اقتصاديا قائما على تحقيق معدلات نمو مرتفعة من خلال التصدير إلى الخارج، والعمل على زيادة صادراتها لتعويض خسائرها، ولضمان خفض معدلات البطالة”.
ويشير آستوب إلى أن “هذا المشهد يعني باختصار أن جميع الاقتصادات ستندفع إلى البحث عن وسيلة لتعزيز صادراتها، وغالبا ستكون الوسيلة المثلى هي خفض الأسعار لزيادة الطلب، وحيث إن إمكانية خفض التكاليف شبه منعدمة أو محدودة للغاية، فإن الوسيلة الوحيدة ستتمثل في خفض قيمة العملة المحلية، وما إن تلجأ دولة واحدة أو مجموعة من الدول والاقتصادات الناشئة إلى هذا الإجراء، فسيصبح الأمر مبررا للآخرين لتبني النهج ذاته”.