هل تنتصر العدالة لعائلات المفقودين بالسجون في أول محاكمة لنظام الأسد في العالم؟
النشرة الدولية –
لسنوات عديدة أنهك القلق والتساؤلات المهندس الفرنسي السوري عبيدة الدباغ، إذ كان ينام كل ليلة في سرير آمن في فرنسا لكنه يتخيل أقاربه يقبعون في زنزانة صغيرة في أحد سجون النظام في سوريا، قبل تبلغه خبر وفاتهم.
وتبدأ ألمانيا الخميس أول محاكمة في العالم تحقق في انتهاكات منسوبة إلى النظام السوري، الذي تستهدفه أساسا دعاوى مماثلة في دول عدة، بينها شكوى تقدم بها الدباغ أمام القضاء الفرنسي.
وفي وقت تتركز الأنظار على المحاكمة المرتقبة في ألمانيا، يروي الدباغ لوكالة فرانس برس محنته، التي تتشابه مع قصص عشرات آلاف عائلات المفقودين في سجون النظام السوري الذائعة الصيت.
وشكلت الشكوى التي تقدم بها الدباغ متهما النظام السوري بالإخفاء القسري والتعذيب والاغتيالات مقدمة لصدور مذكرات توقيف في العام 2018، للمرة الأولى في فرنسا، بحق ثلاثة مسؤولين سوريين، بينهم رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك.
ولطالما تحدثت منظمات إنسانية عن مآس يتعرض لها المعتقلون في سجون النظام السوري ومراكزه الأمنية.
ويقدر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن ما لا يقل عن 100 ألف شخص قضوا تحت التعذيب أو نتيجة ظروف الاعتقال المروعة في سجون النظام، التي مر عليها نصف مليون شخص منذ بدء النزاع عام 2011.
طوال خمس سنوات، بحث الدباغ عن معلومات توصله إلى معرفة مصير شقيقه مازن وابن شقيقه باتريك اللذين اعتقلا من قبل المخابرات الجوية السورية في نوفمبر 2013.
في 20 يوليو 2018، تسلمت زوجه أخيه من موظف في السجل المدني شهادتي وفاة مختصرتين أثارتا لديه آلاف التساؤلات: “أين ماتا؟ وكيف؟ أين تم دفنهما؟ هل نحن متأكدون من أنهما توفيا؟”.
ويقول عبيدة “وفق الشهادتين، توفي باتريك بعد شهرين من اعتقاله، وشقيقي بعد أربع سنوات”، مضيفا “كان باتريك في التاسعة عشر من عمره وتوفي جراء التعذيب. أما مازن، فكان يبلغ 59 عاما، وعانى من ارتفاع في ضغط الدم. ربما لم يتحمل ظروف الاعتقال”.
“استجواب صغير”
في صالون منزله في إحدى النواحي الباريسية، يتحدث المهندس بلا كلل محاولا ضبط مشاعره، قبل أن يضع على الطاولة ملفا، يتضمن نسخا من رسائل وجهها إلى الرئيسين الفرنسيين فرنسوا هولاند ثم إيمانويل ماكرون، والاجراءات التي اتبعها لدى وزارة الخارجية والنواب من “أصدقاء” النظام السوري، والأجوبة ذاتها التي لطالما تلقاها ومفادها “إطمئن إلى أنّ…”.
لا تغيب صورتا شقيقه وابنه عن ذهنه. حين اقتيادهما إلى سجن المزة السيء السمعة في دمشق، كان مازن يعمل مستشارا تربويا في الليسيه الفرنسية، وباتريك في سنته الجامعية الثانية في كلية الآداب. اعتقدت العائلة حينها أن “المسألة لن تتعدى ساعات عدة ومجرد استجواب صغير”.
لاحقا، علمت العائلة ما جرى خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى من الاعتقال، من شاهد تم اعتقاله في الوقت ذاته ثمّ أُطلق سراحه.
وينقل عبادة عن الشاهد قوله “طلبوا منهما الانتظار واقفين ووجهيهما إلى الحائط من دون كلام. بقيا كذلك لـ12 أو 13 ساعة. حاول باتريك طمأنة والده، ثم جرى فصلهما. دخل مازن إلى حجرة (..) في السجون السورية، حيث يوضع ستون شخصا في بضعة أمتار مربعة”.
وكانت الكلمات الأخيرة التي رددها مازن وفق الشاهد “توقفوا، توقفوا، أنا أختنق”.
“توقيت العدالة”
شكلت السجون والمعتقلات السورية محور تقارير أعدتها منظمات دولية عدة، موثقة فصولا من حلقات الرعب داخلها. وروى معتقلون ناجون شهادات مروعة لما اختبروه خلف القضبان. وتم توثيق الانتهاكات في السجون السورية منذ 40 عاما.
في العام 2014، كشف مصور سابق في الشرطة العسكرية صورا تظهر جثثا تحمل آثار تعذيب في سجون النظام بين عامي 2011 و2013. وتمكن العنصر السابق المعروف باسم مستعار هو “قيصر” من الهرب من سوريا صيف عام 2013 حاملا معه 55 ألف صورة مروعة.
لم يكن لمازن وباتريك أثر في تلك الصور، كونهما اعتقلا بعد انشقاق قيصر. ولكن بعد علمه بتشكيل المكتب المركزي لمكافحة الجرائم ضد الإنسانية في فرنسا، قرر عبادة تقديم شكوى.
وقال “قلت في قرارة نفسي، علي أن أفعل كل شيء، حتى لو كان ذلك عديم الفائدة”.
تسلم الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان ملفه عام 2015 وحركه إعلاميا، وأدت الاجراءات إلى إصدار مذكرات توقيف عام 2018.
ويرى عبادة أن “توقيت العدالة ليس توقيتا إنسانيا، لكن شيئا فشيئا، يتم تحديد المعالم. ويظهر ذلك للنظام أنه ستتم ملاحقته في يوم ما”.
ويعتبر أن مضي ألمانيا في محاكمة عنصري مخابرات سورية متهمين بممارسة التعذيب في السجون، “سيسمح بأن يطلع العالم على ما جرى ويجري في سوريا”.
ويقول عبادة “آمل أن يُصار في يوم من الأيام إلى محاكمات أيضا في فرنسا” مضيفا “سيُعاقب المجرمون ويسقطون. لكن ستتاح لهم فرصة لمحاكمة ومعاملة حسنة في السجن”.