حين تغادر دون وداع مَنْ يفكّ أسر الياسمينة؟!
النشرة الدولية –
ما الذي دهاك أيها «الختيار»، هل فقدت كل بوارق الأمل، ما هذا الذي سمعته عنك.. قالوا: لقد استسهلت ركوب الطريق المؤدية إلى المستشفى القريب وتنكّرت عمداً لدرب فلسطين الذي دللتني إليه قائلاً: ما من بوصلة تدللني جهاتها إلا لجهتها هي وليس سواها؟!..
إياك أيها الختيار أن تخاتلني لهج الكلام، فإن كان الذي قلته لي لم يكن سوى هذربات رجل طاعن في السر استسلم طوعاً لبضعة شرايين وأوردة تالفة أشتغل الزمن متعمداً على خرابها كما الذي حصل بالبلاد من خراب ووجع فتلك حجة واهية. قل لي إن حدسي خاطئ وإن الذي أنت به لم يكن أكثر من خلوة بينك وبين بنات أفكارك اللواتي تربين على العز والدلال تحت سقف أضلاعك الغامر بالمحبات.
قل لي بأنك لن تخونني أو تخذلني هذه المرة أيها الختيار، ستبقى على قيد انتظاري مهما طال وقت حكايات الاغتراب والوجع، إياك تنسف كل ما بنيته من أفكار في طوابق رأسي العليا حول فلسطين وحواريها وبياراتها.
لا تكن مثل عصام العبد الله الذي غافلني وخرج من الباب الخلفي للحياة من دون كلمة وداع أو كسرة عناق نحن على أحرّ من الشوق لارتكابها.. نعم يا صديقي هو قال لي: «روح يا طلال.. حطّ عيلتك بمكان آمن ورجاع.. أي يا طلال رح ترجع وتلاقينا هون متل ما نحن.. على ذات الطاولة في مقهى الروضة البيروتي».
أضحك أنا يا صديقي، والدمع يترقرق في خوابي عيوني، عصام العبد الله أخلف وعده لي ولم ينتظر عودتي، كسر قلبي حين لم أستطع تسليمه الرواية «كمين» قبل أن يغادر، هو غادر مسرعاً دون أن يبرق لأحد من الزملاء ترك مقام الصوت ودفتر النمل مفتوحاً أمام بدعة التأويل التي يُراد بها فتح مزادات الحكي، نعم أوجعني غيابه يا «أبا هيسم» وبقي إهداء «كمين» الرواية غافياً تحت سطوة غلافها البارد..
ها أنا أحذرك أيها الطاعن في السرّ، لا تركب درب عصام العبد الله، كي لا أكتبك كما كتبته على صدر الجريدة في يوم وفاته، «الرجل الذي خان الملقى»، قسماً بالذي أوهبني سر الحبر سأكتبك كما كتبته، لا تعتقد بأن البيان شخصي الذي تلوته علينا ذات مرة على خشبة مسرح القباني سيثنيني عن مناددتك، لم أعدْ أكترث لمثل تلك الترهات التي شاخت من سماعها الآذان عن العروبة والوحدة العربية وتلك الشعارات الرنّانة..
تأكد بأنني سوف أناددك كما لم تكن تتوقع بكل فصل من فصول «تغريدة أبو سالم» الذي وقف لك الجمهور مصفقا وبحرارة بأن لن تترك دمشق إلا إلى فلسطين..
إذاً ما الذي دلك على درب المستشفى، أما قلت لي عندما عدت ذات مرة من زيارة فلسطين التي خرجت منها مطروداً وأنت في سنّ السادسة، عدتها وأنت في كامل الشيب بعدما تشربت عشقها في المنافي، قلت لي: إن لم تتحرّر سأعيد الكرة مرة أخرى وأخرى.
تعرف يا عبد الرحمن، لم يزل صوت ووميض فلاشات الكاميرات يلهب عيوني برهجة الضوء ويملأ آذاني رنيناً حين مددت سجادة صلاتك في مذبح كنيسة القيامة مكبراً ملء روحك: حي على الصلاح.. حي على العناق. وقتها كان راهب الكنيسة يقرع أجراس العودة ولسان حاله يردد: قام الحب.. حقاً قام.
لا تنظر إلى وجهي بشرر وأنا أفتح دفاتر حسابك مستنكراً، سأتوقف عند هذا الحد كي لا تثور بوجهي وتخرج عن طور هدوء روحك، لكنني قبل كل شيء لن أقف في طريق سفرك البارد إن قرّرت العناد والتنصل من كل عهود ملقانا، بالتأكيد أنت حر.. حر بمعنى الكلام، ما دمت اخترت خط الموت لتهرب من المواجهة فلتذهب.. الطريق إلى الموت لا حراس عليها يا صديقي، يمكن لأي منا السفر عبرها دون التفاتة أو ترك تلويحة وداع لمن نحبهم. فلتغادر يا صديقي على الرغم انك لم تفِ بوعدك لدمشق.. كيف يترك الحبيب حبيبه المختار يا عبد الرحمن؟
هذا ما سيقوله عنك معشر العشاق، «أبا القاسم» ترك حبيبته وهرب، فلا ضير مما سيقولونه، ولكنني وددت تذكيرك بأمر أخير، هل تذكر شتلة الياسمين الذي أخذتها فتاة من دمشق لتزرعها على قبر أبيها الشهيد في فلسطين ذات زيارة لكم إلى هناك وقلت لي وقتها، لقد صادر جنود الاحتلال تلك الشتلة على المعبر المؤدي إلى البلاد. ماذا لو متّ أيها الختيار، ستموت معك شتلة الياسمين لأنك الشاهد الوحيد على اغتصابها!