لماذا قد تنخفض أسعار النفط إلى ما دون الصفر مرة أخرى الشهر القادم؟
النشرة الدولية –
في الأسبوع الماضي وتحديدًا في العشرين من أبريل الجاري، انهارت أسعار النفط الخام الأمريكي إلى ما دون الصفر للمرة الأولى في التاريخ، وهو ما ترك المستثمرين قبل العامة في حالة من الصدمة والاندهاش غير قادرين على استيعاب فكرة تحول أسعار النفط إلى المنطقة السالبة.
بالنسبة لكثير من المستثمرين الذين ظلوا طوال ذلك اليوم جالسين أمام الشاشة يراقبون الانهيار السريع للأسعار، كان ذلك يومًا لا ينسى، وربما يكون السوق على موعد مع هذه الدراما مرة أخرى في مايو. بعبارة أخرى، هناك احتمال غير ضئيل بأن تهبط أسعار النفط الأمريكي إلى ما دون الصفر في غضون ثلاثة أسابيع من الآن.
باختصار، إن جميع العوامل التي أدت إلى انهيار سعر عقد خام “نايمكس” الأمريكي لشهر مايو الذي انتهت صلاحيته يوم الثلاثاء الماضي إلى ما يقرب من 40 دولارا تحت الصفر لا تزال قائمة بل وربما تضافرت بشكل أكبر، وهو ما يرجح أن يلقى عقد شهر يونيو – الأكثر تداولًا حاليًا والمقرر تسليمه في 19 مايو القادم – نفس المصير.
أزمة التخزين .. كيف وصلنا إلى هنا؟
في بداية العام 2020 كانت هناك توقعات متفائلة حول نمو الطلب العالمي على النفط الخام الذي كان مستقرًا في ذلك الوقت فوق الـ100 مليون برميل يوميًا. ولكن بعد أن وقع ما وقع في عامنا السعيد من أحداث وتطورات ربما أبرزها وأهمها أزمة فيروس كورونا المستجد اختفى حوالي 35% من الطلب العالمي على الخام في لمح البصر، وهو ما تسبب فيما يشبه الصدمة الدماغية لصناعة النفط العالمية.
وما زاد الطين بلة في سوق النفط، هو رفض روسيا في بداية مارس الماضي الاستمرار في اتفاق أوبك لخفض الإنتاج، لينهار الاتفاق ويدخل السوق في حرب أسعار لم تنته إلا في 12 أبريل الجاري بحصول اتفاق جديد، ولكنها انتهت بعد أن تسببت في زيادة التخمة التي يعاني منها المعروض مما زاد من جراح وآلام السوق. وصل المعروض إلى مستويات قياسية مرتفعة في نفس الوقت الذي ينهار فيه الطلب إلى مستويات قياسية منخفضة، وهو وضع كارثي بمعنى الكلمة!
قيام كبار المنتجين على مدار الأسابيع الأخيرة بإطلاق العنان لطاقاتهم الإنتاجية في ظل التراجع الحاد لمستويات الطلب كان أحد الأسباب الرئيسية وراء أزمة التخزين التي يعاني منها القطاع النفطي حاليًا.
بعد امتلاء صهاريج التخزين التقليدية، يحاول الآن المنتجون والتجار تخزين ما لديهم من نفط على متن السفن العملاقة أو عربات السكك الحديدية أو في باطن الكهوف وخطوط الأنابيب غير المستخدمة إلى أن تبدأ مستويات الطلب في الانتعاش مرة أخرى، ولكن في ظل الصدمة المزدوجة التي يعاني منها السوق قد تصل مواقع التخزين حول العالم بكافة أشكالها إلى طاقتها الاستيعابية الكاملة في غضون أسابيع.
في الولايات المتحدة وصلت صهاريج التخزين في مدينة كوشنج بولاية أوكلاهوما إلى حوالي 77% من طاقتها الاستيعابية الكاملة، ومن المرجح أن تصل إلى طاقتها القصوى في منتصف مايو. في شمال غرب أوروبا لم تعد كهوف الملح متاحة أمام التجار والمنتجين، لأنها الآن ما بين ممتلئة ومحجوزة بالكامل. وفي الهند، امتلئت صهاريج التخزين بالكامل.
بعد أن كانت تجوب الأرض شرقًا وغربًا، تتراص اليوم ناقلات النفط العملاقة أمام سواحل أكبر موانئ الشحن في العالم حاملة على متنها ما لا يقل عن 250 مليون برميل من النفط الخام. والمشكلة هي أن التخزين العائم يتسارع بوتيرة غير مسبوقة، ما تسبب في تحول ما يقرب من 15% من ناقلات النفط من سفن شحن إلى خزانات عائمة لا تبرح مكانها.
وبالطبع تسبب ارتفاع الطلب على ناقلات النفط في ارتفاع أسعار إيجارها اليومي لتتراوح الآن ما بين 150 و300 ألف دولار اعتمادا على حجمها ووجهتها، في حين أن تكلفة تشغيلها في اليوم تبلغ في المتوسط 18 ألف دولار فقط. صناعة الشحن البحري تعتبر بلا شك أحد أبرز الرابحين من الأزمة الحالية.
أين اتفاق “أوبك +” من المعادلة؟
في الثاني عشر من أبريل، توصلت الدول المكونة لمجموعة “أوبك +” لاتفاق لخفض الإنتاج العالمي من الخام بنحو 9.7 مليون برميل يوميًا اعتبارًا من الأول من مايو المقبل. ورغم أن التخفيضات المزمعة هي الأكبر في التاريخ إلا أنها من غير المرجح أن تؤثر كثيرًا في السوق الذي فقد أكثر من ثلث مستويات الطلب أو نحو 35 مليون برميل. وهذا طبعًا بافتراض الالتزام التام بالتخفيضات وعدم تحايل بعض المنتجين عليها.
منذ بداية اتساع تداعيات أزمة كورونا التي تسببت حتى الآن في حالة من حالات الشلل لأكثر الاقتصادات العالمية كان السوق بحاجة إلى هدنة مؤقتة على جانب العرض إلى أن تبدأ مستويات الطلب في التعافي، ولكن للأسف لم يمهل المنتجون السوق وعمقوا جراحه بطريقة جعلت من الصعب على اتفاق “أوبك +” التاريخي مداواته. رغم التخفيضات سيظل هناك فائض ضخم في المعروض في الفترة الحالية.
في ظل انهيار الطلب بالفعل، أصبحت مشكلة السوق الأساسية في النفط الذي تم استخراجه بالفعل والذي يملأ حاليًا صهاريج التخزين وناقلات النفط الواقفة في عرض البحر. عقد خام نايمكس لشهر يونيو – الأكثر تداولاً حاليًا – لن يتأثر بالتخفيضات التي ستبدأ في بداية مايو بقدر تأثره بـ40 مليون برميل من النفط السعودي التي تسلك الآن طريقها عبر البحر نحو الولايات المتحدة، و11 مليون برميل الأخرى الخارجة من العراق نحو نفس الوجهة.
وما سيقلل من فاعلية اتفاق “أوبك +” في التأثير بشكل إيجابي على مستويات الأسعار، هو عدم تفاعل المنتجين الآخرين وبالتحديد الأمريكيين بالسرعة الكافية مع تطورات السوق. فوفقًا للبيانات الصادرة عن إدارة معلومات الطاقة في الولايات المتحدة، لم ينخفض الإنتاج الأمريكي بشكل كبير منذ بداية الأزمة.
في السياق ذاته، أشار تقرير صادر عن بنك الاستثمار الأمريكي “جولدمان ساكس” في الرابع والعشرين من الشهر الجاري إلى أنه يتعين على منتجي النفط الخام خفض إنتاجهم بنحو 20% أو 18 مليون برميل يوميًا بمجرد وصول مواقع التخزين حول العالم إلى طاقتها الاستيعابية الكاملة وهو ما يرجح أن يحدث خلال الأسابيع الثلاثة أو الأربعة القادمة.
الفاعل المجهول الذي لم ينتبه إليه أحد!
كما وضح في تقريرنا المنشور خلال الأسبوع الماضي، جاء هبوط أسعار عقود الخام الأمريكي تسليم مايو إلى ما دون الصفر بسبب هرع حاملي العقد من المضاربين إلى التخلص منه بأي ثمن قبل موعد استحقاقه في 21 أبريل، لكي لا يضطروا إلى استلام ألف برميل من النفط الخام عن كل عقد، وهو ما ليس لهم حاجة فيه وفي نفس الوقت لن يشتريه منهم أحد في ظل انهيار الطلب وندرة مواقع التخزين.
كل هذه الدراما وقعت بشكل أساسي في تداولات العشرين من أبريل، غير أن ذلك اليوم شهد نهاية القصة وليس بدايتها. فهناك فاعل رئيسي في الأحداث لم تركز عليه وسائل الإعلام بالشكل الكافي رغم أهميته ومحوريته في تحريك أسعار عقود الخام الأمريكي منذ بداية أبريل. نتحدث هنا عن “صندوق النفط الأمريكي”.
في العاشر من أبريل 2006 تم تأسيس صندوق النفط الأمريكي (USO) من قبل صندوق السلع بالولايات المتحدة (USCF) ليصبح حاليًا أكبر صندوق مؤشرات متداولة نفطي في العالم. هذا الصندوق الذي يعد الوسيلة المفضلة بالنسبة لكثير من المستثمرين الذين يودون الاستثمار في الخام كان له دور في إحداث حالة الفوضى التي شهدتها الأسعار الأسبوع الماضي.
في الأسابيع الأخيرة وفي خلال مراحل مختلفة امتلك الصندوق ما يقرب من ربع عقود نايمكس لشهري مايو ويونيو المتداولة في البورصة الأمريكية. وبما أن العقود الآجلة على عكس الأسهم لا يمكن الاحتفاظ بها سوى لفترة محددة كان على الصندوق أن يبدل مراكزه قبل حلول فترة الاستحقاق.
بدأ الصندوق في بيع عقود مايو – التي انتهت في 21 أبريل – في السابع من أبريل، وبحلول الإثنين الموافق الثالث عشر من نفس الشهر كان قد تخلص من كامل حيازاته من ذلك العقد بعد أن استبدلها من خلال عقود أخرى معظمها تخص شهر يونيو القادم. في الأوقات العادية لم يكن لتلك الخطوة أن تحدث ذلك التأثير الكبير على أسعار الخام ولكن في ظل الفجوة الحالية الموجودة بين الأسعار الفورية وأسعار العقود الآجلة دخل السوق في صدمة في الساعات الأخيرة قبل موعد الاستحقاق.
وفقًا لبياناته، يمتلك صندوق النفط الأمريكي حاليًا حوالي 158 ألف عقد لخام نايمكس تسليم يونيو. وينوي الصندوق التخارج من هذه العقود في الفترة ما بين الخامس والثامن من مايو القادم.
وفي ظل احتفاظ الصندوق بهذا العدد الكبير من عقود شهر يونيو، تتصاعد المخاوف من أن يتسبب تخارجه بنفس الطريقة وفي ظل المعطيات الحالية في انهيار الأسعار إلى ما دون الصفر مرة أخرى قبل حلول موعد استحقاق العقد الحالي والمقرر في التاسع عشر من مايو، ليدخل السوق في أزمة ربما أسوأ من أزمة الأسبوع الماضي.
أخيرًا، لسوء حظ سوق النفط، اجتمعت عليه مصائب كثيرة في نفس الوقت تجعل تعافيه في وقت قريب أشبه بالمعجزة. ولذلك لا يجب أن يتفاجأ أحد لو تكرر ما حدث الأسبوع الماضي وأصبح سعر النفط بالسالب مرة أخرى قبل التاسع عشر من مايو القادم.