أنا تونسية وزوجي فلسطيني.. أجواء بيتنا والمائدة الرمضانية المميزة* ريحان غضباني

النشرة الدولية –

بدا رمضان غريب الملامح قبل حلوله علينا لتعاقبه مع وباء كورونا الذي اجتاح حياتنا فجأة.

تساءلت كما تساءل الكل: كيف سيكون حاله وحالنا في ظل ما يحدث؟ بالنسبة لي هذا ثالث رمضان أقضيه في إسطنبول مع زوجي وائل، والثاني مع ابنتي رفيف. طبعاً كنت أقضيه مع عائلتي في تونس قبل ذلك.

اختلفت أجواء رمضان منذ ثلاث سنوات من طقوس تونسية خالصة إلى أجواء مختلطة في تركيا، إذ إن زوجي فلسطيني وجيراننا في ذات المجمع السكني من مختلف الجنسيات، ليبيون وإيرانيون وروس وأتراك وغيرها من الجنسيات التي تجعل من زادي الذي جلبته معي من طقوس تونسية ينصهر من جديد بين جميع تلك الثقافات. وقلت من جديد لأنني كنت أقضي رمضان أول اثنى عشر عاماً من حياتي في ليبيا وفي مجمع سكني أيضاً يضم جميع الجنسيات العربية التي كنا نتشارك ليالي رمضان معاً إلى أن عدت إلى تونس عام الفين بشكل نهائي.

وبما أننا زوجان مختلطان تونسية وفلسطيني فستغدو الأجواء والمائدة الرمضانية مختلطة أيضاً، إذ إنني لن أكون أنانية واحتكر المطبخ لإعداد الأطباق التونسية الرمضانية لي، وأتناسى زوجي في موائدهم الرمضانية ابتداء من الملوخية الفلسطينية التي يفتتح بها أهل فلسطين إفطارهم أول أيام رمضان، نهاية بالقطايف المحشوة بالجبن والقرفة التي يعشقها وتذكره برائحة أمه.

في العادة وقبل أذان المغرب بنصف ساعة كان وائل يذهب إلى البقالة لجلب نوع خاص من الخبز الساخن الذي يعدونه حصراً في رمضان ويعود قبل موعد الإفطار بدقائق، الآن ألغي هذا الطقس من يومنا الرمضاني لتحاشينا الخروج ولغياب أجواء تجمع الناس للإفطار في المطاعم المتوفرة في ساحة المجمع السكني حيث نقطن. مشاهدتنا للإفطار الجماعي الذي ينظمه الجامع المحاذي لنا كان يضفي روحاً ليومنا الرمضاني، الآن شيء ما فقد نكهته خارجاً هذا العام بسبب الحجر الصحي. إذاً وفي مثل هذا الوضع لا حل لنا سوى خلق أجوائنا في المنزل.

مبدئياً.. قررت تقسيم الأيام كالآتي، يوم إفطار فلسطيني بحت ويوم آخر تونسي لا غير، بما أن الأجواء التركية التي كنا نعيشها في المطاعم التركية أغلقت هذا العام لبقاء الجميع في المنازل.

أول يوم قررت إعداد الملوخية الفلسطينية التي يحبها وائل، لن أكذب عليكم لقد كانت ثاني مرة لي أعد فيها هذا الطبق بعد المرة الأولى التي فشلت فيها فشلاً ذريعاً. ولكنني لم أيأس وأعدتها بتركيز أكثر وقد نجحت، إذ إنه أحبها وأحس بأن لها ذات الطعم الذي كان يتذوقه لدى أمه.

لا تخلو مائدة رمضان الفلسطينية من أطباق جانبية “كالمتبل بالباذنجان” و”اللبن بخيار” و”السمبوسك” وشربة العدس وغيرها من المقبلات فما كان لي إلا إعدادها جميعاً كي أخلق أجواء رمضانية فلسطينية له.

ثاني أيام رمضان كان تونسياً بامتياز، إذ إنني أعددت “البريك” وشربة “الشعير” والسلطة المشوية والتمر الذي لابد من وجوده في مائدتنا، مع تشغيل أناشيد رمضانية نطلق عليها في تونس اسم “الحزب اللطيف” وبعض من “الحضرة التونسية” الصوفية.

ابنتي رفيف الفرات هي الرابح الأكبر في هذا الزواج المختلط، إذ إنها تكتشف كل مرة طبقاً جديداً إما تونسياً أو فلسطينياً. هي تحسن التذوق جيداً وأحبت جميع أنواع الشربات وخاصة طبق “الكسكسي”.

العام الماضي كان عمرها خمسة أشهر، والاعتناء بها كان أسهل من ناحية أنها مازلت لا تحبو أو تمشي. فكان أسهل عليّ أن أضعها في عربة الأطفال وإتمام جميع مهام المطبخ. أما هذا العام فالتعامل معها بات أصعب بكثير، فوعيها زاد بعمر سنة وأربعة أشهر، أصبحت تعبر عن أحاسيسها وطلباتها بشكل أوضح وفوري. على سبيل المثال، ابنتي لا تحب مشاهدتي في المطبخ بتاتاً، تفعل كل ما في وسعها كي تخرجني منه. ترى أنه يلهيني عنها فتبدأ بمناداتي “ماما.. ماما” لعشرين مرة في الدقيقة مع تشبثها بأطراف ثوبي أو قرصي في رجلي كي أترك ما في يدي وأحملها. أحياناً يزيد الأمر سوءاً وترمي نفسها على الأرض باكية.

وفي تلك الحالة إما أنني أفقد هدوئي وأصرخ طالبة منها أن تصبر أو أقوم بحملها وتهدئتها قليلاً. ولكن في جميع الأحوال من الصعب جداً مباشرة أي شيء أود القيام به وأنا أحملها بين ذراعي، ناهيك أنني أستصعب الرسم بحضورها تجنباً لطلباتها التي ستبدأ بلمس فرشاة الرسم وتنتهي بصبغ وجهها بالألوان الزيتية. فأقرر منع نفسي من الرسم إلى أن تنام ولكن هنالك مشكلة أخرى، فعملية تنويم الطفل مرهقة أكثر من عملية تهدئته وهو يبكي، فبعد عدة محاولات لحثها على النوم أجد نفسي قد أنهكت وبدأت أشعر بالنعاس وأنسى موضوع الرسم لليوم التالي، وهكذا دواليك. والآن ومع حلول شهر رمضان أعتقد أن  تأجيل فكرة الرسم بات قراراً ناجعاً.

كي أكون صادقة، هذا الحجر الصحي لم يؤثر بي بشكل سلبي للغاية، إذ إنني لست من أولئك الذين يفضلون تناول وجبة إفطار رمضان في المطاعم بشكل دائم. فإن أردت الذهاب لمطعم ما ستكون لمرة واحدة في الأسبوع لا أكثر. فإعداد أطباق منزلية له نكهة مختلفة في رمضان لن أجدها في أرقى المطاعم. لذلك لا أشعر بالسوء إلى ذلك الحد. وإن كان هنالك أمر سلبي في وضعنا هذا فهو بلا شك حرمان ابنتي من الخروج والتنزه. باتت حبيسة المنزل بعد أن كبرت وأصبحت تحب التنزه وتطلب منا بلغة غير مفهومة وإشارات واضحة كلمسها لباب المنزل وحملها لحذائها، إنها تريد الخروج. ولكن ذلك صعب الآن بعد قررت الحكومة التركية منع من هم دون سن العشرين من الخروج من منازلهم. كنت أصطحبها معي قبل تفشي كورونا إلى المتجر، بالنسبة لها كان ذلك ممتعاً والآن بات مراداً نطمح له.

زوجي صحفي وكاتب وهو بصدد إنهاء كتاب يعمل عليه منذ سنوات، وبالنسبة له، الحجر الصحي ليس أمراً سيئاً أيضاً بل يصب في صالحه. فقد استغل هذا الاعتكاف الدائم في المنزل للتركيز أكثر على الكتابة وإنهاء كتابه. مع بعض المرات التي يتفقدني فيها وابنتنا لنتسامر أطراف الحديث أو ليلعب معها.

بالنسبة لوائل لم يكن أبداً من أولئك الرجال الذين يحبون الدخول إلى المطبخ لتحضير وجبة ما، فأقصى ما يستطيع طبخه هو بيضة مقلية أو تحضير مشروب الزنجبيل الذي يحبه. ولكنه بين الحين والآخر يأتيني كي يرى ماذا أعد وليبدي آراءه وليطمئن أنني لن أضع الفلفل الحار في الطعام كما نحب أن نأكل في تونس.

بعد أن أعد طاولة الإفطار ويؤذن أذان المغرب، نبدأ بتناول الطعام ونحن نستمع لأنشودة أسماء الله الحسنى بصوت الفنان التونسي لطفي بوشناق، ولابد من سماعها بالنسبة لي لما تشعرني به من حنين وصفاء. وما أن ننتهي أبدأ بمحاولة إعداد صنف معين من الحلويات تونسياً كان أو فلسطينياً، وقلت “محاولة” لما يمكن أن يحصل معي ويلغي مشروعي ذلك إذا ما قررت “رفيف الفرات” الاستحواذ عليّ والجري معها للعب.

وباء كورونا منعنا من مشاركة الإفطار الرمضاني مع أحباء لنا، فرمضان أحلى بتجمع أكبر ومن سماع صلاة التراويح الجماعية وغيرها من الطقوس التي اعتدنا عليها، ولكن على الأقل مازلنا نستطيع التعويض من أماكننا ومنازلنا، فأحياناً إجراء اتصال صوت وصورة مع الأحباء يعوض بعض جوانب الحرمان التي طالت العالم أجمع.

أحياناً يجب أن نفرح أن رمضان آنسنا في عزلتنا هذه وخلق لنا أجواء تنسينا مصيبة الكورونا، لكن لن أستطيع أيضاً تناسي أنه صعب وشاق على أولئك الذين لا يملكون قوت يومهم وتوفير عشاء رمضاني بأجواء رمضانية، لعدم توفر عمل لهم بعد أن منعت أغلب البلدان الناس من الخروج ومباشرة أعمالهم.

رسّامة تونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى