«فيرجينيا وولف» في بيتي* فاطمة بن محمود

النشرة الدولية –

 

عادت كورونا تلتهم الناس في بلادي، وعاد الصخب حولها.. يبدو أن كورونا قد اعتاد البشر وأخذ من طباعهم، بحيث يستريح قليلا فَيُوهم الناس بأنهم انتصروا عليه، يتركهم يسعدون بوهمهم قليلا، ثم يعود ينقض عليهم من جديد، كأنه يستمتع بزرع الوهم بين الناس، فيتوارى يوما أو بضع يوم ثم يطل ثانية برأسه البشع، يطلق قهقهة عالية ويعود لنشاطه بهمة.

في الوقت الذي أكابد فيه من أجل استغلال الوقت لِمَا أحب ان أقوم به، في الوقت ذاته، لا أستطيع التخلص من مشاغل البيت والعائلة، لألتهم كل هذه الروايات والأفلام التي سجلتها على سطح الحاسوب، وكان الفيسبوك يضج في كل مرة بفكرة جديدة تشغل الناس، وتلهيهم عن متابعة الخراب الذي يخلفه كورونا في تونس وفي العالم.

Image may contain: 1 person, smiling, indoor

ضد الملل

لا أدري من تفتقت بذهنه فكرة ساذجة فألقى بها في الفيسبوك، وتلقفها الناس بشغف «نزّل صورة لك وأنت في الطبيعة ستدحر الملل»، صورة واحدة في الطبيعة يعتقدون أنها تميمة ضد الملل الذي تضج به السجون الصغيرة، التي نسكنها ونسميها بيوتنا، بسرعة هرع الكثير من الناس يستعرضون صورا لهم رفقة جبل، أو بصحبة بحر، أو في حضن بستان، انتشرت الفكرة بسرعة جنونية وأغرت العديد من الكُتّاب أيضا.

لم تستهوني الفكرة/لا أدري كيف يمكن لصورة لك في الطبيعة وأنت تبتسم لعين الكاميرا أن تخفف عنك الملل؟ لا أدري كيف أن العديد من الكتّاب انجرفوا لهذه الفكرة الخرقاء، وأفكر لو أن فيرجينا وولف مثلا كانت بيننا، هل كانت ستشعر بالملل، وتعرض صورة لها بجانب البحيرة التي ابتلعتها؟

عندما قرأت لها رواية «فلاش» ذُهلت، كيف أن لروائية انتهت حياتها سنة 1941 أن تكتب بذلك الحس الحداثي، عندما طوت فيرجينا وولف حياتها، كانت قد جربت تقريبا كل الأساليب السردية، واستوفت تجربتها الروائية المثيرة، وأنهت مغامرتها في الأدب. أتذكر الآن الجدل الذي حضرته في مجالس أدبية عديدة حول الحداثة الأدبية، والتجريب الروائي، وأجده الآن عقيما وبلا معنى.

هل من عاداتنا نحن العرب أن نصل دائما متأخرين؟

عندما ماتت فيرجينا وولف سنة 1941 كان نجيب محفوظ في الثلاثين، اكتشف حديثا انجذابه للرواية، وبدأ بنشر فصول من «عبث الأقدار» في مجلة «المجلة الجديدة»، حنا مينه كان في السابعة عشرة ويجب ان ينتظر سنة 1947 ليرسل قصصه الأولى للصحف السورية، الطيب صالح وقتها في الثانية عشرة، ومحمد شكري في السادسة، والطاهر وطار في الخامسة ، وعبد الرحمن منيف في الثامنة، ويجب أن ننتظر ثماني سنوات ليولد علاء الأسواني. أعتقد أن مسألة الحداثة والتجريب، انتهت في أوروبا قبل أن تظهر الرواية أصلا في عالمنا. عاشت فيرجينا وولف في أوروبا التي بدأت في سياستها الاستعمارية، وتستعد لحربين عالميتين، أي أن الوضع العام كان محتقنا قريبا منها، كانت ألمانيا النازية تربي حقدا عنيفا ضد الجميع، لم يكن الوضع هادئا ومريحا لامرأة شغوفة بالكتابة في عالم ذكوري، ونشأت في ثقافة استعمارية وطبول الحرب تدق في كل حين، ورغم ذلك كتبت الروايات والقصص، وتركت لنا ما يدهشنا، لذلك ذُهلت وأنا أقرأ رواية «فلاش». أحببت فلاش وأتساءل كيف خطر ببال فيرجينيا وولف، في تلك الحقبة أن تجعل من الكلب شخصية روائية أساسية؟

قرأت وأنا في الخامسة عشرة تقريبا كتاب شكيب أرسلان «لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب؟». نسيت الآن كل ما قاله شكيب أرسلان في كتابه، لكن السؤال «لماذا تأخر العرب» ما زال يدق في رأسي بعنف، كأن هناك أسئلة لا تبلى بفعل الزمن ولا ينخرها سوس.

ثورة

عندما استطاعت أوروبا التخلص من عصرها الظلامي، وتركت العالم خلفها، لا أظن أن الفضل يعود لثورة قامت بها تلك المجتمعات، بل أظن أن الثورة حدثت قبل ذلك، حدثت في ذهن ديكارت أولا، عندما قال بهدوء شديد «أنا أفكر إذن أنا موجود»، عندها سُحب بساط التفكير من كل المدّعين من رجال الدين والحكّام ومنح شرف التفكير للإنسان فقط، كانت جملة بسيطة من ديكارت لكنها كانت زلزالا عنيفا غيّر أوروبا إلى الأبد. بذلك الكوجيتو فقط يمكن أن نفهم الثورات التي أحدثها ديكارت في الفلسفة نفسها، وفي العلوم والسياسة والمجتمع، وأيضا في الفنون والآداب. في تلك اللحظة التي جلس فيها ديكارت في بيته أمام المدفأة وافترض أنه بلا جسم، ومنفصل عن المجتمع، وغير متصل بالعقل، وأنه مجرد فكرة مجردة هي التي تحدد له وجوده، وكان العقل أو الشيطان الماكر، كما يحب ديكارت أن يسميه، هو الذي يضمن له الآن أنه فعلا يفكر، تلك اللحظة غيرت أوروبا والعالم إلى الأبد، هي نفسها اللحظة التي ألهمت فيرجينا وولف أن تكسر الأنماط السردية السائدة، فتجعل فلاش الكلب الإسبانيولي شخصية رئيسية لروايتها.

لذلك أعتقد أن اللحظة التي خطرت ببال ديكارت عند صياغة الكوجيتو، أن يجعل من «العقل أعدل الناس قسمة بين الناس»، كانت فعلا لحظة تأسيس الإنسان، لحظة انبثاق الحقيقة العلمية، كانت لحظة منفلتة أدخلت الإنسان للتاريخ الحقيقي، لذلك أعتقد أنه يجب إعادة تقويم التاريخ، كل ما سبق ديكارت هو ما قبل التاريخ.

بيتي/سجني الصغير

تبا للعقل، أحتاج أن يصمت قليلا، يجب أن أتوقف عن كل هذا، وانطلق في جولتي الصباحية في الحي، استغلها فرصة لاقتناء ما أحتاجه للبيت، وأعود ليلتهمني المطبخ أتعس ركن في البيت، أتساءل أحيانا لماذا لا تقع هندسة بيوت بدون مطابخ؟ ما الذي يمنع ذلك؟

أفكر دائما في مدن بيوتها بلا مطابخ، عندما يحتاج سكانها للأكل يذهبون لمطاعم تزرع في كل مكان. بدت لي فكرة مدهشة، لا يبدو أنها موجودة في الواقع لكن أتوهم دائما أنها موجودة، وأحب أن أعيش فيها، إنه إيهام لذيذ يمنحه لي عقلي الذي يزعجني بسؤاله الذي لا يصيبه الصدأ، ويدق رأسي بشدة «لماذا تأخر العرب؟» عقلي الذي يغذيني بوهم جميل أن هناك مدينة بيوتها بلا مطابخ سأعيش فيها يوما. تبا لكورونا الذي يجعل من عقلي «شيطانا ماكرا» وغبيا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى