“مصرف لبنان” في عين الأزمة المالية والاقتصادية تجاذب الحاكم والحكومة
بقلم: سوسن مهنا
النشرة الدولية –
أُنشئ المصرف المركزي اللبناني في 1 أغسطس (آب) 1963، من مسؤولياته إصدار العملة الوطنية (الليرة) والحفاظ على الاستقرار النقدي، وتنظيم عمليات نقل الأموال والحرص على سلامة القطاع المصرفي ومراقبته وتحديد قوانينه. يرأس “مصرف لبنان المركزي”، الحاكم رياض سلامة منذ عام 1993، وأُعيد تعيينه لأربع ولايات متتالية في أعوام 1999 و2005 و2011 و2017، علماً بأنه مُنح الولاية الرابعة في عهد الحكومة السابقة التي رَأَسها سعد الحريري، وكانت تجمع أركان المعارضة والموالاة في حكومة “وحدة وطنية”. اختير سلامة لسنتين متتاليتين، من بين أفضل 9 حكام مصارف مركزية في العالم، من مجلة “غلوبال فاينينس”، إلا أنه في ظل الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تضرب لبنان حالياً، تصاعدت أصوات مطالبة بإقالته، محملةً إياه مسؤولية فشل السياسات المالية منذ عام 1993 وحتى اليوم. وكان رئيس الحكومة اللبنانية، حسان دياب، انتقد أخيراً عدم تنسيق “مصرف لبنان” مع السلطة التنفيذية، معتبراً أن “هناك مَنْ يصرون على تعميق الأزمة المالية والإبقاء على تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية بشكل مريب في السوق السوداء”. وقال دياب في كلمة ألقاها بعد اجتماع مجلس الوزراء يوم الجمعة الماضي في القصر الجمهوري في بعبدا، إن “هناك معضلة تتمثل في غموض مشبوه في أداء محافظ مصرف لبنان بخصوص سعر صرف الليرة اللبنانية”، في إشارة إلى تعميم “المصرف المركزي” حول سحب أموال المودعين بالليرة اللبنانية بدلاً عن الدولار على سعر صرف السوق.
سابقة تاريخية
لم يحصل أن واجهت أي حكومة حاكم مصرف لبنان من قبل، علماً بأن المواجهة لم تتحوّل إلى مساءلة قانونية تبقي الرأي العام مطلعاً على ما يجري، إذ يُفترض أنه عندما تضع أي حكومة في أي دولة في العالم، علامات استفهام على سياسة حاكم المصرف المركزي لديها، يجب إقالته فوراً أو تقديم الأدلة التي تثبت فشل السياسية النقدية التي اعتمدها. ولكن وبعد القرار الذي أصدره مجلس الوزراء، وطلب فيه من وزير المالية غازي وزني “القيام بعملية تدقيق مركّزة للحسابات بهدف تبيان الأرقام الدقيقة لميزانية المصرف المركزي”، أدلى سلامة يوم الأربعاء 29 أبريل (نيسان) الحالي، بردٍ مفصّل على الاتهامات الحكومية الموجهة له، عارضاً أرقاماً تفصيلية حول التساؤلات المطروحة والهندسات المالية التي اعتمدها، إضافة إلى التلاعب بسعر صرف الدولار لدى الصرّافين، كما وضع الودائع.
وسعت “اندبندنت عربية” إلى الإضاءة على التجاذبات الحاصلة بشأن مؤسسة تُعدّ ركيزةً أساسية في الاقتصاد اللبناني، أي “مصرف لبنان”، فتحدثت إلى أكاديميين وباحثين في مجالَي القانون والاقتصاد. فهل يحقّ للحكومة اللبنانية إقالة الحاكم؟ وكيف تتم مسألته؟ وهل تخطي سقف التسليفات من قبل المصرف المركزي للدولة، يُعد مخالفة؟ وهل يُعتبر مصرف لبنان مؤسسة مستقلة؟ وما هي حدود التدخلات السياسية في عمله؟
مؤسسة مستقلة
يقول نائب حاكم مصرف لبنان السابق، غسان العياش “نعم، مصرف لبنان مؤسّسة مستقلّة، واستقلاليته شبيهة بتلك التي تكرّسها قوانين المصارف المركزية في الدول المتقدّمة. والاستقلالية في التشريعات المتقدمة تهدف إلى عزل السياسة النقدية التي يتولاها المصرف المركزي عن تأثير الحكومة والسياسيين، لأن هؤلاء يغلّبون مصالحهم السياسية ما يسيء إلى سلامة النقد”. ويعتبر العياش أن “لهذه الاستقلالية مَعْنَيين، استقلالية تقتضي منح المصرف الحرية الكاملة في تقرير وتنفيذ سياساته وأهدافه، ولا يجوز للحكومة أن تضغط عليه لتغيير تلك الأهداف. واستقلالية إدارية، الهدف منها حماية المصرف المركزي خلال وضع سياساته، وتشمل مثلاً وضع شروط صعبة لإقالة الحكام، وفي وضع موازنته وتحديد النفقات”.
أما عن حدود صلاحيات حاكم المصرف المركزي في تهدئة سوق الصرف، يشير العياش إلى أن المسألة ليست مسألة صلاحيات بل واجبات، حيث إنه “من واجبات المصرف الحفاظ على سلامة النقد اللبناني والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، لذا فإن من مهمّاته التأثير على سوق القطع كلما شهدت توتراً لكي يمنع سقوط سعر صرف الليرة اللبنانية أو يحول دون التقلبات الحادّة في سوق القطع، صعوداً أو هبوطاً، ولأجل تحقيق هذا الهدف يستعمل الأدوات التي وضعها قانون النقد والتسليف بين يديه وهي أدوات السياسة النقدية، مثل معدّل الفائدة والاحتياطي الإلزامي”.
واستناداً إلى خبرته كنائب حاكم سابق، ردّ العياش على ما إذا كانت الحملة على الحاكم والمصرف ستؤثر على سمعة لبنان النقدية المهتزة أصلاً، فقال إن “هناك أسباباً عدة تجعل الثقة الخارجية بنظامنا المالي تهتزّ في الوقت الحاضر، علماً بأن هذا النظام كان يتمتّع بسمعة خارجية ممتازة، بخاصة في المدى الإقليمي. قبل حملة الانتقادات على الحاكم شهدنا تطوّرات لا سابق لها في لبنان، خصوصاً فرض قيود على حركة الرساميل، والتحويل من العملة الوطنية إلى العملات الأجنبية، وطرح احتمال شطب نسبة من الودائع في إطار هيكلة الدين العام”.
وشرح بأنه “في غمرة هذه التطورات بالغة السلبية توجه رئيس الحكومة بانتقادات قاسية لحاكم مصرف لبنان وصلت إلى اتّهامه بإخفاء أرقام عن الدولة وتشجيع هبوط سعر صرف الليرة. هذه الاتهامات الخطيرة تشوبها شائبتان، فمن جهة توجّه اتهامات خطيرة إلى أكبر مرجع مالي في البلاد من دون ملفات أو مستندات، وهذا لا يجوز. ومن ناحية أخرى، تحصر تهمة التسبّب بالوضع الخطير الذي وصلت إليه البلاد بالسياسة النقدية وحدها. مع العلم بأن هناك عيباً في السياسة الاقتصادية ككل، وخصوصاً في السياسة المالية، وهي أوّل المسؤولين عن الكارثة”.
أما عن إمكانية استرداد ودائع المصرف المركزي في الخارج، يعتبر العياش أن “هذا الموضوع غير واضح”، إذ إن مصرف لبنان يستطيع في أي وقت سحب أمواله، ولكن “الخطر الوحيد يكمن في تقديم دعاوى ضد الجمهورية اللبنانية من الدائنين بسبب قرار الحكومة التوقف عن دفع ديونها بالعملات الأجنبية. ويطرح ذلك احتمال مبادرة القضاء الخارجي، في مكان تقديم الدعاوى، إلى حجز موجودات الدولة اللبنانية في المصارف الخارجية، وربما من بينها موجودات مصرف لبنان”.
مسألة الإقالة
من جهة أخرى، تحدث الباحث في القانون الدستوري المحامي سعيد مالك عن حق الحكومة اللبنانية في إقالة الحاكم، فقال إن “الحكومة تستطيع إقالة سلامة بمرسوم بأكثرية ثلثي عدد أعضاء مجلس الوزراء، كون أن تعيينه بحاجة إلى هذه الأكثرية، عملاً بأحكام الفقرة 5 من المادة 65 من الدستور. لكن يجب أن تتوفّر شروط لذلك، وهي إما عجز صحي، أو انخراطه بعمل عام وعدم تفرغه، أو إخلاله بواجباته الوظيفية، أو في حالة اقترافه خطأً فادحاً في تسييره للأعمال”. وأكد مالك أنه “من الناحية القانونية يحقّ للحكومة إقالته ضمن هذه الشروط، غير المتحققة في وضع الحاكم الحالي”.
وعن طريقة مساءلة حاكم المصرف المركزي، شرح مالك أنها “تتم ضمن إطار أسئلة وأجوبة تُوجَّه إليه من الحكومة، وعلى ضوء هذه الأجوبة، في حال لم تقتنع، عندها “ممكن أن تطرح إقالته على طاولة مجلس الوزراء ليتخذ القرار الصائب بخصوصه”.
أما إذا كان تخطي سقف التسليفات من قبل المصرف للدولة يُعد مخالفة، فقال مالك إن “الحاكم لا يعمل إلا ضمن إطار توجيهات الحكومة، وتحديداً وزير المال. وعندما قام حاكم المصرف بمنح تسليفات للدولة كان ذلك بناءً على توجيهات الحكومة. بالتالي لا تُعتبر مخالفة، طالما أن ذلك حصل بموافقة الحكومة ومجلس النواب وتوجيهات وزير المال، وإذا كان هناك من مسؤولية فهي مسؤولية مشتركة بين الجميع”.
رئيسة جمعية الإعلاميين الاقتصاديين في لبنان، سابين عويس، وفي معرض شرحها عن مصرف لبنان كمؤسسة مستقلة، وحدود التدخلات السياسية، تقول إنه “وحسب قانون النقد والتسليف الذي ينظم عمل مصرف لبنان، يُعتبر مؤسسة مستقلة على الصعيد الإداري والمالي، حيث إنه لا يخضع للرقابة التي تخضع لها مؤسسات القطاع العام”، لكنه يخضع لرقابة مفوض الحكومة لدى المصرف المركزي المعيَن من مجلس الوزراء، وبناءً على اقتراح من وزير المال، كما أنه يتوجب عليه تقديم حساباته وميزانياته السنوية وكل العمليات الصادرة عن المصرف خلال السنة. لكن على الرغم من استقلاليته، يبقى خاضعاً للقرار السياسي، حيث إن “السياسات العامة هي سياسات تنتهجها الحكومة، كتثبيت الاستقرار النقدي ويبقى على المصرف أن يطبقها”. وتؤكد أن “الاتهامات التي وجهها رئيس الحكومة، بأن الحاكم يمارس “أداءً مريباً”، لا يمكن الركون إليها، لأنه في المبدأ لوزير المال كما لمفوّض الحكومة الحق بالمراقبة والمساءلة والاطلاع على كل القرارت الصادرة وحتى رفضها، إذ لم تتوافق مع سياسات الحكومة”.
وتعتبر عويس أن “الحاكم يتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية الأزمة، لكنه ليس الوحيد”، وعلى الرغم من ذلك فإن “الهندسات المالية وسياسة استقرار النقد التي اتبعها، كانت كلفتها عالية، بحيث سمح بارتفاع سقف تمويل الدولة من أموال المودعين الموجودة لديه لتغطية عجز الدولة، فكان عليه أن يحدّد سقفاً ويلزم الحكومة وقف الاقتراض”. أما بالنسبة إلى المصارف التي وفّر لها سلامة عوائد مجزية نتيجة الفوائد المرتفعة التي كانت تتقاضاها، “فكان بإمكانه أن يأخذ احتياطاته أو أن يدخل كمساهم في رساميل المصارف كي يضمن حقوق المودعين، ولو تم اللجوء إلى هذه الخطوات لكان حجم الضرر أقل بكثير”.
الشعب يدفع الثمن
أما الباحث الاقتصادي، زياد ناصر الدين، وتعليقاً على إطلالة حاكم مصرف لبنان، فقال إن “الحكومة وضعت المشكلة عند حاكم مصرف لبنان، فيما الأخير وضع المشكلة عند الحكومة، بينما الشعب هو مَن يدفع الثمن”. ورأى ناصر الدين “أننا مقبلون على مرحلة كارثة اجتماعية قد تتحول إلى انفجار اجتماعي لم يشهد لبنان مثيلاً له”، موضحاً أن “33 في المئة من القوى العاملة في لبنان يتقاضون 80 في المئة من رواتبهم فيما 24 في المئة يتقاضون بين 40 و50 في المئة من الرواتب، فيما الآخرون لا يتقاضون أي راتب”. واعتبر أن “التجاذب الذي حصل بين الحاكم والحكومة خلق هوةً، وكان الأجدى برئيس الحكومة، عند توجيه اتهام بهذا الحجم لحاكم المصرف المركزي، إما إقالته فوراً أو تحضير عدة المواجهة من خلال تعيين المجلس المركزي ونواب الحاكم، كما التحضير لرؤية اقتصادية تضع النقد في خدمة الاقتصاد وليس العكس، فهو قام بخطوة ناقصة بهذا الاتجاه”.
وأكد الباحث الاقتصادي أن “السياسة النقدية التي كانت قائمة على تثبيت سعر الصرف على 1500 ليرة لبنانية مقابل الدولار، التي اعتمدها المصرف المركزي انتهت مفاعيلها، وبالتالي تم التسليم من قبل سلامة بأهمية الاقتصاد الإنتاجي، وهذا ما تطرّق إليه عندما اعتبر أن الإنتاج والاقتصاد المنتج هو من أهم الحلول المستقبلية للبنان، وهو تأكيد على أن الاقتصاد الريعي استهلك الوضع النقدي بالكامل”.
نقلا عن “الاندبنديت العربية”