الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد

النشرة الدولية –

أنا في ليل الإسكندرية الربيعي، أسير بجوار سور الكورنيش متجها نحو موتي، اقترب من حديقة سعد زغلول بتمثالها الشهير الذي صنعه صديقي الراحل الفنان العظيم محمود مختار، ولكن مَنْ هذا الذي يجلس على أريكة تحت التمثال؟

اقتربُ قليلا من التمثال لأرى أوضح. إنه عيسى الدباغ بلا سكرتير أو موظفين أو سعاة. وحده جالسا فوق الأريكة. أغلب الأرائك خالية، وهواء أبريل بارد في غير قسوة “يتجول في الرحبة الفسيحة لاعبا بالنخيل، والنجوم تومض في القبة الهائلة، والليل راسخ كالأبدية، لم يكن عيسى قد نجا بعد من ذكريات الشاب الناشبة في مخيلته، ولكنه صمم على أن يرسم للمستقبل خطة. ولم يكد يستغرق في أحلامه حتى شعر بشخص يجلس إلى جانبه، فالتفت نحوي في غيظ مكبوت”.

سألني: من أنت، ولماذا تجلس بجانبي؟

– أنا ذاهب بقدميه إلى الموت بعد قليل!

– وما شأني في ذلك!

– أنا أعرفك وأعرف التوترات والانقسامات التي تعيشها منذ قيام ثورة 1952.

قهقه عيسى الدباغ عاليا قائلا: توترات وانقسامات وثورة .. من أنت؟ هل أنت من رجال الثورة لتحاسبني على توتراتي؟

– لست منهم يا صديقي، أنا فنان تشكيلي في طريقه إلى الموت كما ذكرت لك، عرفتك من أوصاف نجيب محفوظ في روايته.

– ما اسمك؟

– محمود سعيد.

– محمود سعيد .. آه .. تذكرتك .. أنت الذي استعان الكاتب العبقري بلوحته المعلقة على أحد جدران فيلا عبدالحليم باشا شكري في زيزنيا.

– نعم .. لقد ذكر نجيب محفوظ أن عينيك استراحتا عند صور فنية معلقة على الجدار فوق المدفأة الباردة، حيث تُحدق زنجية غليظة الشفتين جاحظة العينين في غير دمامة، في وجهك بنظرة حسية وقحة وناطقة بالإغراء والتحدي.

– إن نجيب محفوظ يسبر أغوار شخصياته، قبل أن يكتب عنها، ويبدو أنه لاحظ انفعالاتي وتوتراتي التي لم أستطع السيطرة عليها عند قيام الثورة، وأرجع بعضها إلى انفعالات حسية، وجعلني أحدق في تلك الزنجية التي قمت أنتَ برسمها بروعة وجمال وافتتان.

– يهمني أن أقول لك إنه عند قيام الثورة كنت مثلك تماما منقسما على نفسي، وعندما قرأت “السمان والخريف” للوهلة الأولى أحسست أنني عيسى الدباغ، وأن محفوظ يعبر عن موقفي السياسي وقتها، ولعلك تعلم أنني كنت محسوبا على القصر، وكان الملك فاروق متزوجا من صافي ناز ذو الفقار (الملكة فريدة) ابنة شقيقتي، لذا كنت في حيرة من أمري، ودخلت ذلك النفق النفسي الذي دخلته أنت، ولكني شفيت بعد ذلك، فأنا – في النهاية – فرد من الشعب وانحاز إليه في كل أعمالي.

– يا صديقي إنهم كانوا ينتقمون منا باسم التطهير. وعلى رأي صديقي سمير عبدالباقي: “كنا طليعة ثورة فأصبحنا حطام ثورة”. والحقيقة إن عقلي يقتنع أحيانا بالثورة، ولكن قلبي دائما مع الماضي، والمسألة هل يمكن التوفيق بين عقلي وقلبي؟! ما أشبهنا بساحل الإسكندرية في الخريف.

– ولكننا في الربيع، وأنت مازلت  ربيعيا، وأنا الآن خريفيا.

أخذت ابتعد عن عيسى الدباغ رويدا رويدا حتى بدا كشبح مهزوم في معركة لم يدخلها. “ألقيت نظرة على التمثال المحدّق في البحر وطوَّح برأسه إلى الوراء على طريقة الباشا الذي حلا له قديما محاكاته”. وعندما حانت مني التفاتة أخيرة أسفل التمثال رأيت الدباغ “ينتفض قائما في نشوة حماس مفاجئة، ويمضى بخطى واسعة، تاركا وراء ظهره مجلسه الغارق في الوحدة والظلام”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button