قراءة في رواية (الملائكة لاَ تطير) للكاتبة والشاعرة التونسية فاطمة بن محمود* ريم قمري

النشرة الدولية –

الملائكة لا تطير هو عنوان رواية للكاتبة والشاعرة التونسية فاطمة بن محمود، ومن خلال العنوان كعتبة أولى نستعد نفسيا ومعرفيا لدخول عالم الرواية بمجموعة من الافكار والتخمينات المسبقة، وهو ما يورطنا منذ البداية ويحفزنا على التفكير حتى قبل أن نبدأ عملية القراءة.

ان الكتابة بما هي اعادة تشكيل للواقع، واعادة نحت ورسم لملامحه وفق ضوابط وتقنيات سردية دقيقة ومحددة، عملية في غاية التعقيد والاهمية وتتطلب جهدا كبيرا وتكوينا معرفيا وفكريا مناسبا.

والكاتبة هنا تطرقت لموضوع شديد الاهمية، شكل مركز اهتمام عالمي ومحلي، ألا وهو موضوع الارهاب والتطرف الديني.

ومنذ البداية تضعنا الكاتبة في قلب الاحداث التي تمتد على حيز زمني طويل نسبيا، حتى يتسنى لنا تتبع الاحداث السياسية والاجتماعية، لعائلة ” متشددة دينيا ” أب وأم ثم الابنة.

إذا حددت لنا منذ البداية، الاشخاص والعلاقات التي جمعت بينهم في المقام الاول، ثم العلاقات التي جمعتهم بأشخاص اخرى ثانوية ولكن لها دورها في دفع الاحداث.

الحب، الجنس، الزواج والانجاب، العلاقات الاجتماعية بين الافراد، والتجارب الحياتية التي تخلف ندوبا نفسية عميقة، الوضع السياسي وما يرافقه من ازمات اقتصادية محلية وحتى عالمية، الاحتقان الفكري في ظل كل هذه المتغيرات المتحولة بشكل مستمر، كلها جعلتنا نقف على أرض متحركة على الدوام وغير ثابته بالمرة.

هذه الارضية وهذه الاجواء المتقلبة باستمرار، تجعلنا كلما تقدمنا في القراءة عرضة لاكتشاف مفاجاءات جديدة وغير متوقعة.

لنكتشف جوانب خفية في شخصية البطل الارهابي ” سيف” المتشدد مع زوجته وابنته، والذي بلغ به التشدد حد القيام ” بختن ” ابنته مما جعلها تعاني من عطب نفسي انته بها الى مصير مأساوي لاحقا.

هذا المتشدد والسجين السياسي السابق، لا يتردد عن معاقرة الخمر ومازال يعيش على أنقاض قصة حب فاشلة، ويمارس الجنس والعادة السرية في غرف الدردشة والمسنجر بحسابات وهمية على الفيسبوك وبالمقابل يمنع منعا باتا فتح الشبابيك في منزله الذي يبقي غارقا في الظلام.

وكلما تقدمنا في الرواية تتكشف لنا عقده النفسية المرتبطة بطفولة كان فيها عرضة للاستغلال الجنسي، فنجد أنفسنا أمام شخصية مضطربة نفسيا، عنيدة وتبحث عن موقع لها في المجتمع، تبحث عن أي شيء يجعلها محل احترام واهتمام، وتبقى تتخبط بين الخفاء والعلن.

الزوجة امرأة منسحقة الشخصية، مذعنة على الدوام، خجولة وتعاني من نقص ثقة في نفسها، تأخذ دائما مكان الظل في الاسرة، و لكنها كلما اختلت بنفسها تحررت من عقال خوفها و انكماشها، و بدت امرأة لعوب و مغناج قادرة على الرقص مثلا و هي نصف عارية، و هي الوحيدة في هذه المعادلة الجحيمية التي ستنجو في نهاية الرواية و تسترد انسانيتها.

”نور” أو البنت هي الضحية، هي من ستدفع ثمن أخطاء أبيها وجبن أمهما، كانت ضحية ختان وحشي وقاسي، وشمها للأبد وجعلها تعاني اضرارا نفسية كبيرة، وكون داخلها نوع من الكره والحقد الخفي الممزوج برغبة قوية في التحرر والانطلاق، وهو ما دفعها للتحرر جسديا في مرحلة اولى، حيث عاشت تجربة الحب الجسدي برغبتها وكشكل من اشكال الانتقام من حياتها التي تحيها، لتنتهي بها منتحرة كفعل تحرر قاسي ويأس من حياة لم تمنحها يوما ما أرادت.

نهاية غير متوقعة وصادمة، لكنها ربما كانت حتمية ضرورية لتكتمل حلقة الاحداث، فالإرهاب لا يقود الا نحو الدمار والموت، كأنه هرب من الموت نحو الموت في بعده الاول، لكنه أيضا انعتاق من حياة كانت أقرب للموت.

الرواية زاخرة بالعديد من الافكار التي حرصت الكاتبة على ايصالها، وتوزعت على الشخصيات وفي فصول متعاقبة، حيث امتزج البعد الفلسفي بالنفسي والاجتماعي.

وكنا ازاء شخصيات مركبة، ومعقدة جدا حتى وهي داخل دوامة الاحداث وتتصارع فيما بينها، كانت تتصارع أيضا مع ذواتها، أحلامها، ذكرياتها، خيباتها واخفاقاتها.

سيف واسئلته حين كان في السجن إثر أحداث سليمان، حول الدين والعدالة الالهية، أسئلة تناسها حين خرج وانخرط مع الجماعة ليحصل على كيان اجتماعي حتى وان كان منبوذا فان له حيزا هاما يحتله داخل الجماعة وكأنه يصنع لنفسه مجدا، بعد أن فشل، وهو ما يجعلنا طوال الرواية نتساءل أي ايمان وانتماء يحمله سيف داخله؟ ونحن نتابع حنينه للماضي عن طريق معاقرة الخمر مع صديقه وحنينه لحبيبته لبني وأيام الصعلكة.

ليلي والوجه الاخر عندها، حين تمارس جنونها، وتلعب دور المموس وهي ترقص وترتدي باروكة، وربما هي الوحيدة التي استطاعت أن تنتصر على عقدها وخوفها لتولد من جديد بعد انتحار ابنتها.

نور الحلقة الاضعف والاقوى في ذات الوقت، من انتصرت حتى وهي تنهزم وتموت، انها جوهر الرواية، وخلاصة ما يمكن ان يكتب عن الارهاب ومخلفاته النفسية الرهيبة وهي الملائكة التي لم تتمكن من التحليق.

تميزت الرواية بأسلوب سرد مختلف، حيث اعتمدت، فاطمة بن محمود، على المراوحة بين الشخصيات الثلاث الرئيسية، كما أقحمت شخصية الساردة التي كانت تتدخل في الاحداث بطريقة غير مباشرة و جعلت ايقاع الرواية مختلف جدا، و أقحمت القارء في الاحداث بشكل مباشر، بمعني أنها كانت عين القارء و لسانه داخل الرواية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى