وريث غير صالح للحكم
بقلم: د. عماد بوظو
النشرة الدولية –
نشر قبل أيام المجلس الروسي للشؤون الخارجية الذي يديره وزير الخارجية الأسبق إيغور إيفانوف المقرب من الكرملين تقريرا قال فيه “إن حماية (بشار) الأسد أصبحت عبئا على روسيا، وهناك شكوك متزايدة لدى موسكو بأنه لم يعد قادرا على إدارة البلاد وهذا يؤدي لجر موسكو نحو السيناريو الأفغاني”. وقبل ذلك ببضعة أيام انتقد سفير روسي سابق “حجم الفساد وأخطاء النظام السوري وانفصاله عن الواقع السياسي والعسكري”.
وقبل هذا التقرير بأسبوعين قال الخبير إيفان أركاتوف لوكالة الأنباء الفيدرالية الروسية إن “بشار الأسد غير قادر على التعامل مع الأوضاع في سوريا لأنه يفتقد للإرادة وضعيف”.
ومن الطبيعي أن يعتبر صدور مثل هذه التصريحات من قلب موسكو مؤشرا على وجود رغبة عند بعض مستشاري بوتين للبحث عن حل حقيقي ومقبول للمشكلة السورية، ولذلك عقّب جيمس جيفري المبعوث الأميركي المكلّف بالشأن السوري على هذه التصريحات بالقول إن روسيا قد تكون ضاقت ذرعا برئيس النظام بشار الأسد.
ربما تأخّر الإعلام الروسي عشرين عاما حتى بدأ بالتشكيك بأهليّة بشار الأسد للحكم، لكن الكثير من السوريين مؤيدين ومعارضين كانوا يعرفون ذلك منذ الأيام الأولى لتوريثه، وصمت بعضهم وقتها كنوع من التواطؤ وحتى لا يفقدوا الامتيازات التي يمتلكونها بينما الأغلبية صمتت خوفا، فقد كانت شخصيته ومفرداته ومخارج حروفه وطريقته في الحديث وحركات جسمه ومضمون كلامه كلها تؤكد تواضع إمكانياته.
نجح بشار الأسد بإفساد علاقات سوريا مع أغلب الدول العربية نتيجة تحوّل علاقته مع إيران إلى شكل من التبعيّة
عمل حافظ الأسد قبل وفاته على تصفية مشاكل سوريا الخارجية حتى أصبحت على علاقات حسنة مع جميع دول العالم من أميركا وأوروبا إلى روسيا والصين ومن السعودية ومصر إلى إسرائيل وإيران، حتى أن الرئيس الأميركي بيل كلينتون ووزيرة خارجيته أولبرايت رحّبا بنقل السلطة لابنه، وإلى درجة أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي كان أهم زعيم أوروبي في ذلك الوقت، قد تبنّى بشار وفتح أمامه أبواب أوروبا حتى أصبح ملك إسبانيا من أصدقائه الشخصيين.
كما عمل حافظ الأسد على تمتين علاقة سوريا مع دول الخليج عندما أرسل فرقة عسكرية كاملة إلى حفر الباطن في السعودية عام 1991 للمشاركة في تحرير الكويت من صدام حسين، وبنى علاقة خاصة مع أمير قطر السابق بعد استلامه السلطة عام 1995، وأنهى المشاكل مع تركيا بإبعاد عبد الله أوجلان من سوريا في نهاية عام 1998 والذي أدّى إلى اعتقاله من قبل المخابرات التركية، مما مهّد الطريق مستقبلا لعلاقة عائلية مميزة بين بشار والرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
كل هذه العلاقات الدولية والإقليمية الممتازة تمكّن بشار الأسد من تخريبها خلال فترة زمنية قياسية، بداية عندما عمل بالتعاون مع إيران عام 2003 على دعم المجموعات الإرهابية في العراق بهدف عرقلة التحول الديمقراطي فيه مما أفسد علاقته مع الولايات المتحدة. ثم نجح بجعل جاك شيراك من ألد أعدائه في بداية عام 2005 بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، وما أعقبها من انتفاضة الاستقلال اللبناني الثاني التي انتهت بإخراج القوات السورية بعد ثلاثين سنة من الوصاية.
وكذلك نجح بإفساد علاقات سوريا مع أغلب الدول العربية نتيجة تحوّل علاقته مع إيران إلى شكل من التبعيّة، بحيث انتهت سوريا تحت حكمه إلى بلد منبوذ إقليميا ودوليا.
وترافق ذلك مع ازدياد في صعوبة الوضع الداخلي. فبعد بضعة أشهر من ادّعاء الانفتاح السياسي في ما عرف بربيع دمشق عام 2000 اشتدت القبضة الأمنية وتم اعتقال الكثير من نشطاء المجتمع المدني والمعارضين، كما ارتفع الفساد إلى درجة غير مسبوقة في محاولة لتعويض خسارة الموارد المالية الكبيرة التي كانت تتيحها الهيمنة السورية على لبنان وتراجع الإنتاج المحلي من النفط وتدهور العلاقات مع دول العالم الثريّة.
وتركّز هذا الفساد عند عائلة الأسد وشريحة ضيّقة جدا من أقربائها، وأدّى الحجم الكبير لهذا الفساد إلى انخفاض غير مسبوق في مستوى معيشة السوريين فانتشر الفقر والبؤس على نطاق واسع. وبعكس طريقة عمل أبيه كان بشار يقوم بتغيير القيادات الأمنية والعسكرية والسياسية خلال فترات زمنية قصيرة خوفا من بروز مراكز قوى نتيجة ضعف ثقته بنفسه وبمن حوله، مما أدّى إلى انحدار إضافي في مستوى المسؤولين السوريين من ناحية مؤهلاتهم الشخصية وخبرتهم المهنية.
وقدّمت علاقة بشار الأسد مع عائلته نفسها مثالا آخر على غياب المواصفات القيادية عنده، فبمجرد وفاة والده انتقلت خلافاته مع شقيقته بشرى وزوجها الضابط العسكري البارز آصف شوكت للعلن، والتي انتهت بخروج أخته من البلد ومقتل صهره بانفجار خلية الأزمة عام 2012.
وأخذ الخلاف مع عمه رفعت وأبنائه منحى جديدا عندما طالبوا بعودة رفعت للبلد حتى لا تخسر عائلة الأسد الحكم، وعبّر رفعت نفسه عن ذلك في أحد التسجيلات بقوله “من الصعب على بشار البقاء في السلطة”.
ارتفع الفساد في عهد بشار الأسد إلى درجة غير مسبوقة في محاولة لتعويض خسارة الموارد المالية الكبيرة التي كانت تتيحها الهيمنة السورية على لبنان وتراجع الإنتاج المحلي من النفط
وكان آخر الخلافات العائلية ما حدث قبل أيام مع رامي مخلوف ابن خاله وشريكه وواجهته الاقتصادية طوال العقدين الماضيين والذي ألمح في تسجيل نشره على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن زوجة بشار هي التي تتحكم فيه، وعلّق المبعوث الأميركي جيمس جيفري على ما يحدث ضمن هذه العائلة بالقول “إنها تكشف عن الغسيل القذر في أحد أسوأ أنظمة القرن الواحد والعشرين”.
الكثير من هذه التطورات حدثت قبل الثورة السورية ولعبت دورا في اندلاعها. والأمر الأخير والأكثر دلالة على قلّة حكمة بشار وتهوّره كان فشله في التعامل مع هذه الثورة، ففيها خسر ما تبقى من صداقاته الخارجية مثل العلاقة مع تركيا وقطر، وأصبح مشمولا بعقوبات دولية، والأهم من كل ذلك أنه أصبح متّهما بارتكاب جرائم حرب استثنائية في وحشيتها، لأنها تضمّنت استخدام أسلحة كيماوية مما أدّى لسقوط مئات الضحايا المدنيين، وتنفيذ عمليات إعدام خارج القانون لعشرات آلاف المعتقلين، والاستهداف المتعمّد للبلدات والقرى والمستشفيات والمخابز بالبراميل المتفجرة لتهجير ملايين السكان.
وجميع هذه الجرائم موثّقة، ولذلك قال السفير الأميركي السابق لقضايا جرائم الحرب ستيفن راب في لقاء مع شبكة أي بي سي نيوز: “إن الأدلة على ارتكاب نظام الأسد جرائم حرب في سوريا هي الأقوى منذ محاكمات نورمبرغ في الحرب العالمية الثانية وإن الملاحقة القضائية التي ستصل إلى أعلى مستويات النظام بما فيها بشار الأسد أمر لا مفرّ منه.
هذا النوع من الجرائم، التي من الصعب القفز فوقها، كان الخطأ القاتل الأخير لبشار الأسد، والذي توّج سلسلة طويلة من الممارسات الكارثية التي كان من الممكن تلافيها لو كان أكثر حكمة، ومنها استدعاء قوى عسكرية أجنبية لقمع الثورة ضده ممّا حوّله إلى مجرد ورقة بيد داعميه، ولا يوجد ما يمنعهم من بيعه عندما تعرض عليهم صفقة مناسبة أو عندما يصبح عبئا عليهم، كما جعله ذلك يمر في الكثير من المواقف المحرجة المهينة التي لا تتناسب مع مقام الرئاسة، حتى أصبح من الواضح عند الجميع أنه لا يصلح للحكم.