هل أعاد كورونا الاعتبار لـ”ملائكة الرحمة”؟
النشرة الدولية –
يحتفل العالم في 12 مايو (أيار) باليوم العالمي لـ”التمريض”، ويبدو أن هذه المرة ستكون بشكل مختلف مع تفشي جائحة كورونا، التي أعادت الاعتبار للعاملين في هذه المهنة ومنحتهم الأوسمة بعدما نالهم الكثير من اتهامات الإهمال والتكاسل. عقود طويلة و”العاطل” يختلط بـ”الباطل”، ومهنة التمريض تجد نفسها دائماً في خانة الاتهام. مشكلات التعليم المزمنة ومعضلات الاقتصاد المتراكمة، ومعها موروثات ثقافية جعلت من التمريض مهنة تعاني الأمرّين: سوء سمعة الإناث العاملات فيها حيناً، وسوء المعاملة حيناً آخر.
وحين بدأ وباء القرن في كشف العديد من الآثار العكسية الإيجابية لمآسيه، جاءت مكانة التمريض والعاملين والعاملات فيه لتتبوأ الصدارة. وبين تفشٍ فيروسي وضحاه، أصبحت أطقم التمريض تحظى بتحية واحترام وتبجيل وعرفان من سكان الأرض كافة.
استثناء البعض من المقصرين في أداء عملهم الإنساني لن يفسد أجواء الاحتفاء هذا العام باليوم العالمي للتمريض. وبدلاً من قصة إنسانية هنا وموقف بطوليّ هناك، تطلّ على المصريين الآلاف من القصص والمواقف التي كشفت معدن “ملائكة الرحمة” الأصيل في زمن كورونا.
وفي زمن كورونا بطولة من نوع خاص جاءت من قلب مستشفى النجيلة في محافظة مرسى مطروح على بعد 500 كيلومتر من القاهرة، وهو أول مستشفى يتم تخصيصه للحجر الصحي في مصر والشرق الأوسط في بدايات تفشي الوباء. البطلة هي رئيسة قسم التمريض في المستشفى، مروة علي. وبطولتها لم تقف عند حدّ عدم اعتراضها على هذا التكليف، أو تمريض المرضى المعزولين، أو رعايتهم نفسياً وليس طبياً فقط، لا سيما وأنهم يظلون طيلة فترة المرض من دون أن يزورهم قريب أو صديق، لكنها أقبلت على ما لم يقبل عليه أحد، بمن فيهم أهالي المرضى أنفسهم: تطوّعت لتغسيل جثامين المتوفين، وهو عمل لو تدرون يثير الفزع والهلع في زمن كورونا.
تقول علي إن القصة بدأت قبل أسابيع بوفاة سيدة مسنة (76 عاماً) كانت مصابة بـ”كورونا”. وحين توفيت، رفض ذووها القدوم لتسلم جثمانها خوفاً من العدوى والقيام بإجراءات الغسل والدفن. فما كان منها إلا أن تطوّعت للقيام بالمهمة الصعبة.
وتشير إلى أنها حصلت على “بروتوكول” كيفية تجهيز جثامين موتى “كورونا” للدفن من مصادر طبية، وقامت بالمهمة على خير وجه. ولا تنكر مروة علي أنها كانت خائفة في البداية، لكن إيمانها بحكمة الله وتسخير وجود أشخاص للقيام بمهام بعينها في أوقات بعينها من دون سابق تحضير، بالإضافة لحب المغامرة وتشجيع رئيسة قسم التخدير في المستشفى، أمور شجعتها على القيام بالمهمة الصعبة، والتي تلتها مهام أخرى مع زيادة عدد الوفيات. وتضيف أنها لم تتعرض طيلة عملها كممرضة على مدار عشر سنوات لما عايشته الأسابيع القليلة الماضية في مستشفى النجيلة من قصص إنسانية لن تبرح مخيلتها، مشيرة إلى أن تعاطفها مع المرضى المتوفين من الفيروس ساعد أيضاً على قيامها بذلك، لا سيما وأنها كانت ترعاهم طيلة فترة مرضهم وباتت تعرفهم كأشخاص لهم أسماء وأقارب وقصص، وليس مجرد جثامين تنتظر من يغسّلها لتوارى التراب.
المثير أنها أخفت عن والدتها ما تقوم به خوفاً عليها ورأفة بها “يكفي قلقها الرهيب عليّ لمجرد أنني أعمل في مستشفى العزل، وسط كل ما يثار عن الفيروس والمصابين به والمتعاملين معه من خرافات وأكاذيب”، هكذا تقول.
لكن في مستشفى جامعة المنصورة لم تكن إصابة إحدى الممرضات بالفيروس قبل أسابيع خرافة أو أكذوبة. الممرضة التي أصيبت أدت إلى اعتبار جميع المرضى وزميلاتها من الممرضات في القسم مشتبهاً في إصابتهن. وتم عزل القسم وإغلاقه على من فيه من مريضات ومرافقات لهن وممرضات وذلك بعد تعقيمه بالكامل، وترحيل الممرضة المصابة إلى أحد المستشفيات المخصصة للعزل.
الطريف أن الممرضات رفعن شعار “العمل كالمعتاد”، واستمررن في القيام بدورهن في التمريض والرعاية وكأن شيئاً لم يكن. تغيّران وحيدان استجدّا على إيقاع العمل: الأول أنهن يخضعن لمسحات دورية للتأكد من عدم إصابتهن بالفيروس، والثاني أنهن يقمن في المستشفى وذلك اتّباعاً لإجراءات العزل المنصوص عليها في حال التشكك في وجود إصابة.
إنها قصص البطولات الإنسانية التي لولا فيروس كورونا لما حدثت ولما ردّت الاعتبار للعاملين بالتمريض في يومهم العالمي الذي يوافق عيد ميلاد فلورنس ناتينغيل رقم 200 هذا العام.
رغم ما يعيشه الأطباء والممرضون في الآونة الأخيرة من ظروف عصيبة حول العالم بسبب كورونا، فإن الممرضات السعوديات لم يفقدن ابتسامتهن وتفاؤلهن في الجبهات الأمامية لساحات مكافحة الفيروس، فالممرضة “ندى”، التي تعمل في أحد مستشفيات منطقة عسير، أصيبت بالفيروس في بداياته إثر مخالطتها لممرضة فيليبينية جديدة، ثم انتقلت العدوى لابنها الوحيد.
وتقول “بعد شهر من إصابة أول حالة في السعودية بدأت أعراض كورونا على ممرضة قادمة من الفيليبين قبل إصدار قرار بالعزل المنزلي لكل من يأتي من الخارج، وتم فحص المخالطين واتضح إصابتي بالمرض. وعند معرفتي، كانت كل مخاوفي على ابني وبالفعل نقلت العدوى اليه، ولكن مناعته كانت أفضل، فلم يؤثر به المرض كثيراً”.
وأضافت “عندما تكون أنت في الحدث يكون ذلك أهون عليك، كنت متفائلة جداً بالشفاء، وهو ما تم الحمد لله، شفينا الثلاثة جميعاً، وعند عودتي لمباشرة عملي حاولت ان أخلص أكثر، وأن أبثّ ذلك في زملائي وأحكي عن الأعراض وخبرتي كمريضة وممرضة في نفس الوقت”.
وترى الممرضة سعدية الحازمي في مستشفى دلة بالرياض أنه “على الرغم من قضاء معظم يومها في المستشفيات وساعات العمل الطويلة جداً والضغوط وخوف الأسرة، نعمل كالمعتاد بابتسامة، ونحاول رفع معنويات المرضى والمرافقين والتخفيف من توترهم عند مراجعة المستشفى”.
في حين أن اختصاصية العلاج التنفسي، أميرة الشمراني، بمستشفى الشميسي في الرياض، تعيش ضغوطاً نفسية لا أحد يعلمها سواها. وببكاء خافت لكي لا تقلق أحداً، تقول “لدينا في المستشفى نوعان من العزل، وهما التلامسي والجوي، والتلامسي للأمراض العادية، نلبس فيه الكمام العادي عكس الجوي، والذي هو مخصص للأمراض الوبائية، ومنها كورونا، وفي ذات يوم دخلت على مريض في العزل التلامسي وباشرت حالته، وبعد يومين طلبوا أرقام المباشرين والهويات الرسمية، لاحتمالية إصابة المريض بفيروس كورونا”. وتضيف “رجعت المنزل وكل خوفي على أسرتي، ولكي لا أقلقهم كنت أنام مطولاً وأصحى في أوقات نومهم، أحيانا أبكي من الخوف عليهم وليس على نفسي، وبعد مرور أسبوعين تجدّد النشاط والأمل والتفاؤل، وفي نفس الوقت نحن متأهبون طوال الوقت لاستقبال حالات أكثر وبحذر أكبر، ولكننا لم نفقد الصبر والابتسامة عند لقاء أي مريض”.
وتقول الشمراني “عند ذهابي للعمل والكل ملتزم الحجر المنزلي أشعر أنني مسؤولة عن عدم نقل العدوى لأسرتي، وعند إيقاف رجال المرور لوالدي ويرون تصريح عملي يدعون لنا بالتوفيق، ونحن بالمثل وسنكون معهم صفاً واحداً حتى نقضي على الفيروس”.
التعامل مع مرضى كورونا مهيب
أما اختصاصية العلاج التنفسي في مستشفى الشميسي بالرياض، الزهراء العبيد، فتشير إلى أن كورونا أبعدها عن أهلها لثلاثة شهور، وقالت “شعور التعامل مع مرضى كورونا مهيب جداً، أول حالة كنت باشرتها مريض كبير في السن على جهاز التنفس الاصطناعي”.
في حين تؤكد اختصاصية العلاج التنفسي بمستشفى الحرس الوطني، وسن الشمري، أنها لم تتعامل مع مصاب كورونا إلى الآن، مستدركة “لكن نستقبل حالات مشتبه فيها، مما يسبب توتراً وضغطاً لكن يزيد عندنا الحرص بالوقاية الشخصيّة وغسل اليدين، وهنا يكمن دورنا بالمسؤولية والتماسك”.
يقول إبراهيم قضماني، مشرف التمريض السريري في مستشفى رفيق الحريري قسم كورونا، إن لمهنة التمريض سلبيات وإيجابيات. ومن إيجابياتها، إيجاد فرص عمل كثيرة لقلة الموظفين في هذا المجال، موضحاً أنه كشابّ بات يتقاضى راتباً لدى تخرّجه مباشرةً.
لكن لهذه المهنة عدداً كبيراً من السلبيات أيضاً، فهي “متعبة جداً، بخاصة من ناحية دوامات العمل، إذ قد يمتد الدوام إلى 12 ساعة، وقد يكون المريض الذي أشرف عليه في حالة حرجة، ما يتطلّب منّي الوقوف طوال هذه المدة والسهر، إضافةً إلى قلة الراتب”، بحسب تعبير قضماني.
ويضيف أن المسؤوليات التي تُلقى على عاتقهم كممرضين كبيرة جداً، كتقلّب الدوامات ما بين نهارية وليلية، “الجميع نيام ونحن نبقى سهارى على حالات مرضية حرجة، كمريض بحاجة إلى آلة تنفس صناعي، أو آخر توقّف قلبه عن العمل، ممّا يُضطّرنا إلى إجراء عمليات الإنعاش والإشراف على إعطائه الدواء، وغيرها طوال ساعات الدوام المرهقة”.
ويؤكد قضماني أنه في بلد كلبنان يعاني من ظروف معيشية قاهرة، تدفع الممرض إلى العمل في مستشفيين في الوقت ذاته، لتأمين مستلزمات المعيشة.
الوباء يصعب ظروف العمل
في المقابل، صعّب انتشار فيروس كورونا ظروف العمل، “إذ ازداد الضغط علينا، بسبب القلق المستمر من نقل العدوى إلى أفراد عائلتنا”، كما يقول قضماني. ومن المعاناة التي يعيشها الممرض “مشاعر العزلة، نتيجة بعدنا عن التواصل مع المحيط، خصوصاً أنه مع دوامات العمل الصعبة، فقدنا مفهوم عطلة نهاية الأسبوع والاستمتاع بعطل الأعياد”.
في المقابل، تقول فاطمة مازح، وهي ممرضة في قسم العناية الفائقة لمرضى كورونا، وأم لطفلين عن مهنة التمريض “إنها لم تكن من أولوياتها، لكن عندما دخلت هذا العالم أحبته كثيراً”.
وتردّد ما تعلّمته من إحدى الأستاذات التي وصفت المهنة “بالرسالة”، معتبرةً أنها “علاقة مساعدة، أساعد الناس وهم يساعدونني في المقابل، بحيث يزداد تقديري لذاتي وأشعر بالفخر لأنني أسهم في إنقاذ المرضى من الموت. وحتى لو مات المريض، أكون قد بذلتُ أقصى طاقاتي في محاولة إنقاذه وفي مواساة الأهل”.
نظرة المجتمع السلبية
ما يزعج فاطمة هو نظرة المجتمع السلبية، “إذ إنّ هناك أشخاصاً ما زالوا ينظرون إلى المهنة على أنها وضيعة”، وهي تسمع انتقادات عدّة عن النوم خارج المنزل، أو العمل مع مريض ذكر، لكن بالنسبة إليها، “لا أفرّق بين مريض ذكر أو أنثى، بل أعامل المريض كإنسان بحاجة إلى مساعدة”. وتضيف “صحيح أن الطبيب يشخّص الحالة ويصف العلاج، لكن إذا لم تكن هناك ممرضة، فلا شيء يُطبّق عملياً”.
وتتحدث فاطمة عن معاناة الممرضين بشكل عام مع التنمر اللفظي، أو طريقة تعامل الأفراد معهم، “فيقلّلون من أهميتنا ويتعاملون معنا وكأننا جاهلون غير متعلمين، ويعتبرون أننا موجودون فقط لتلبية أوامر الأطباء”. مع أن أكثر ما تحبه في مهنتها “أنها فرع مستقل ومكمّل لمهنة الطب”.
لكن ككلّ الطواقم الطبية في العالم، ازداد التعب والإرهاق والمعاناة مع تفشّي وباء كورونا. برزت مشكلة جديدة أمام فاطمة مع طفلَيْها، إذ تشعر بالتقصير تجاههما، بخاصة وسط التدريس عن بعد، “أحياناً أكون في عملي وهم يتابعون دروسهم، مما يراكم الدروس عليهم وعليّ”.
إضافة إلى الأوجاع التي تشعر بها من ألم في الظهر والأطراف، ترى فاطمة أن “الراتب لا يعكس مدى التعب، خصوصاً مع انخفاض القيمة الشرائية لليرة اللبنانية”.
مهنة الإنسانية
من جهة ثانية، يعمل الممرض بشار علبي في مستشفى راشيا الحكومي، وهو يحب مهنته كثيراً ويحترمها ويعتبرها “علماً وإنسانية”. ويقول إن “مهنة التمريض بخدماتها العلاجية تساعد الفرد على بقائه معافى من الناحية الصحية والنفسية”.
ويرى فيها إيجابيات كثيرة، منها “مساعدة الآخر من دون تمييز واللهفة والمحبة الدائمة تجاه المريض وإعطاء العلاج لتخفيف الآلام والتخفيف عن الأهل في وقت الحزن، إضافةً إلى التحمّل والإصرار الدائمَيْن”.
ومن الذكريات العالقة في رأسه “أهداني أحد المرضى مسبحة من العاج، بعدما تابعتُه لمدة 25 يوماً وهو على فراش الموت. وتأثرتُ كثيراً لدى رؤيتي لطفل في حالة اختناق، كما تعرّضت للإهانة من أحد الآباء عندما كنّا نضع المصل لابنه”.
الطواقم الطبية في العراق تسير بحقل ألغام
تخطى عدد الإصابات المسجلة بفيروس كورورنا في العراق الـ2400 إصابة، وفق ما أعلنت وزارة الصحة والبيئة العراقية، منذ بدأ المرض بالانتشار هناك. وعلى الرغم من تطمينات الوزارة إلى أن المرض لا يزال تحت السيطرة، فإن عدد الإصابات بدأ يسجل ارتفاعاً ملحوظاً، بخاصة بعد بدء تطبيق إجراءات تخفيف الحظر الكلي.
ويؤكد تقني التخدير وليد كاظم، الذي يمضي ساعات عمله في غرفة العناية المركزة، إذ إنه مسؤول عن وضع أجهزة التنفس للحالات المستعصية من المرضى، أنه يتخذ الاحتياطات الكاملة من ارتداء الملابس الواقية وتعقيم كامل الجسم بعد انتهاء عمله. وقال “من أجل التقليل من أوقات التلامس مع المرضى نعمل بنظام المناوبة لمدة ست ساعات ويتم تبدلينا بآخرين بعد ذلك”. وتابع كاظم “أشعر بأنني أسير في حقل من الألغام مخافة أن تنتقل العدوى إليّ”.
وشرح كاظم أن هذا الفيروس غالباً ما أشعره بالأسى الشديد، فلطالما عايش حالات لأشخاص يموتون سريرياً ولا يجدون بقربهم من يمسك بيدهم وهم يغادرون الحياة. وأضاف أن “هذا المرض نقل مخاوفه إلى ما بعد الموت، فكثير من الناس يبدون مخاوف من الجثة على اعتبار أنها قد تنقل المرض”.
ويعتبر كاظم نفسه “محظوظاً” كونه يعيش وحده في بيته، إذ تخلّص بذلك من مشاعر الخوف المرتبطة بإمكانية نقل العدوى إلى عائلته.
في المقابل، يقلق الممرض لؤي عبد سلمان، من العودة إلى المنزل ولقاء عائلته المكونة من خمسة أفراد، على الرغم من كل ما يقوم به من إجراءات للحماية والتعقيم بعد انتهاء عمله. يقول إن “المرض أجبرني على عدم الاقتراب من أبنائي، فأنا لا أستطيع أن أحضنهم مخافة نقل العدوى إليهم”.
أما الممرضة زينب عبد الله، الأم لطفلين، فلم تكتفِ بالابتعاد عن أولادها، بل إنها اضطرت إلى إرسالهم إلى بيت أهلها مخافة أن تكون سبباً في نقل الفيروس إليهم. وقررت الابتعاد عنهم إلى حين انتهاء هذه الأزمة.
شح المستلزمات عوامل تضاعف مخاطر العدوى
من ناحية أخرى، يقول الممرض أحمد إبراهيم، العامل في قسم الحميات، إن “شح المستلزمات يجعلنا نشعر بأن حماية أنفسنا من الوباء ليس كافياً”. وأضاف أن “هناك شحاً في القفازات والكمامات، وغالباً ما نضطر إلى إعادة استعمالها على الرغم من كونها تُستخدم مرة واحدة”.
ويشير إبراهيم إلى أن “الممرض يعيش أياماً صعبة عندما يوجد في الردهات التي تضم حالات مؤكدة، إذ تُضاف إلى مشاعر الخوف من الفيروس، صعوبة التعامل مع المرضى الذين غالباً ما يكونون في حالة نفسية صعبة، فهم لا يتقبلون أنهم مصابون ولا يتحملون الحديث عن المرض”. إلا أنه يؤكد أن “واجبنا الإنساني يجعلنا نتغلب على المخاوف ونتعايش معها من أجل تقديم كل ما يمكن من جهود لشفاء المرضى”.
في النهاية، يبقى الخوف هو الشعور الملازم لمعظم الناس في هذه الأيام، فـ”القاتل غامض” وقد عجز العلماء عن فك أسراره، لا لقاح له بعد يسمح بإعلان النصر عليه. العزلة هي ما نملكه من حلول للوقاية، أما الموجودون في الخط الأمامي فهم يمسكون بمقومات الحياة التي حوّلت الخوف من المرض إلى مجابهة يومية تصدياً له.
لم تتخيّل سميحة بن أمين، وهي ممرضة في أحد مستشفيات العاصمة تونس، أن ترى أبناءها أمامها، وفي الوقت ذاته تعجز عن احتضانهم، “بسبب خوفي عليهم من العدوى. ابنتي تكتب لي أحبّك ماما وتُسرّب لي الورقة من تحت باب الغرفة حيث كنتُ أقضي فترة العزل الذاتي، كنت أحتضن الورقة وأبكي وأشتمّ منها حجم شوق ابنتي إليّ”.
وتروي “كنتُ أسمع صخب أبنائي من وراء الباب ولا أتحمّل غيابي عنهم، يا له من ماكر هذا الفيروس، يَحرم الأبناء من حضن والِديْهم. لقد غيّر حياتنا وأفقدها نكهتها”.
وتشعر سميحة أن ما يحدث “حرب، والعدو الخفيّ الذي يتربّص بنا هو فيروس ليس سهلاً بل إنه خطير، كنتُ أتّخذ كلّ الاحتياطات في المستشفى”.
وتلفت سميحة إلى أن “مرضى كورونا الذين التقيتهم ليسوا على درجة كبيرة من الوعي بخطورة هذا المرض، لذلك هم يتصرّفون بشكل طبيعي وأجد صعوبة في توعيتهم وإقناعهم بخصوصية هذا الفيروس. لقد كانت تجربة صعبة وكنتُ مسكونة بالخوف من أن أنقل المرض إلى أبنائي”، علماً بأن “الاتصال بالمرضى”، تقول سميحة، “يكون عبر الهاتف ومن وراء الزجاج”.
ولتتجنّب كل احتمالات نقل العدوى إلى بيتها، كانت سميحة تعقّم وتنظف كل أركان وزوايا الغرف مرات عدّة في اليوم، قائلةً إنّ “يديّ فقدتا لونهما الطبيعي من كثرة الغسيل والتعقيم”.
أصبت بانهيار نفسي خوفاً على أبنائي
لا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة إلى سوسن شبشوب، وهي أمّ لثلاثة أطفال بينهم رضيع. تراها تعقّم كلّ الأماكن والمقتنيات، تتأمل في وجه ابنها والخوف يسكنها من احتمال نقل الفيروس. ويستبدّ بها القلق، فتعيد التعقيم والتنظيف محتضنةً رضيعها.
تجول أسئلة حارقة في ذهن سوسن حول صحة رضيعها وابنَيْها الآخرَيْن (ثلاث وخمس سنوات)، وتسأل “ماذا لو (لا قدّر الله) نقلتُ الفيروس إلى أبنائي؟ كيف سأتحمّل هذا الموقف؟ ما ذنب أبنائي؟ وصغيري الذي لا حول ولا قوة له!”.
أسئلة وخوف وحيرة وترقّب، حالات شتّى تكدّست في وجدان سوسن الخائفة إلى درجة أنها أصبحت تعاني ضغطاً نفسياً أفقدها وزنها وأدى إلى تساقط شعرها، مما أثّر في حياتها الزوجية.
“جيراني تنكّروا لي”
استغربت سوسن رد فعل جيرانها، تقول “تنكّروا لي، وأصبحوا يتفادونني ولا يرغبون في التواصل المباشر معي، ويشيحون عني نظرهم كلّما التقينا. لقد غيّر كورونا سلوك الأشخاص وطباعهم”.
تناقض صعب تعيشه سوسن بين نداء الواجب وتقديم العون إلى المرضى وبين ضرورة حماية أبنائها ورعايتهم. وتدعو الحكومة إلى إيجاد حلول للممرضين عموماً، والممرضات الأمهات خصوصاً.
وتؤكد سوسن نقص المعدّات ومواد التعقيم، مشيرةً إلى أن الوضع ليس كما يتمّ تقديمه في وسائل الإعلام، “فالواقع يختلف عن الصور الوردية”.
وتلمس سوسن أن غالبية مرضى كورونا، تحديداً من كبار السن، لم تفهم بعد خصوصية المرض وأهمية الاحتياطات الواجب اتّخاذها. وتذكّر بأن “إحدى المريضات فرّت من المستشفى بعدما عُزلت في غرفة وحدها، فتمّ الاستنجاد بقوات الأمن لإرجاعها بالقوة إلى المستشفى كي لا تنقل العدوى إلى آخرين”.
إعداد الزملاء: أمينة خيري، سعاد اليعلا، سوسن مهنا، غفران يونس، وحمادي معمري
نقلاً عن موقع “اندبندنت عربية”