وحشية الحجر* د. نادية عويدات
النشرة الدولية –
أثبت الحجر الصحي فعاليته ليس فقط للحد من انتشار الفيروس، لكن للسيطرة أيضا على أرواح البشر وقوقعتها وزجها في مساحة صغيرة يسهل فيها التحكم بهم.
دفع الجلوس الطويل في المنزل البشرية كي تدرك حاجة الإنسان الماسة لحرية التنقل والاختلاط بالآخرين للعيش حياة مليئة بالتجارب تثري وعي الإنسان وتزيد من سعادته وشعوره بأنه لا يزال على قيد الحياة. وفي ذلك تذكير إضافي، ربما صرنا بحاجة إليه، إلى المقولات الخلدونية التي أولت حياة العمران والاجتماع أولوية قصوى.
تذكرني أيام الحجر هذه بأيام الحجر في منزل والدي والتي كانت تفرض علي لأشهر وأحيانا لفترات أطول. كفتاة ولدت في عائلة مسلمة محافظة فإن الحجر المنزلي، للأسف، كان مصيرا حتميا، كما هو حال ملايين النساء والفتيات اللاتي يولدن في عائلات محافظة ترى في حَجْرهن وعزلهن “حماية” لهن أو حتى “حب”، سواء رغبن في هذا النوع من الحب أم لا.
وبالفعل يشكل هذا النوع من الحجر حماية لكن ليس للمحجورات بل لأولياء الأمر الذين يريدون تسهيل حياتهم عبر منع نصف المجتمع من ممارسة حياة حرة مستقلة بلا تحكم، بحيث تقتصر حياة النساء على حجر شبه دائم يقلل من مسؤولية أولياء الأمر بتوفير بيئة آمنة حاضنة لفتيات ونساء المجتمع لتحقيق طموحهن خارج جدران المنزل.
إن الحجر المنزلي من أقسى ممارسات ثقافتنا. فأتمنى أن تستيقظ ثقافتنا بعد هذا الحجر العالمي على وقع استشعار أهمية الحرية حتى نستمتع بأوطاننا دون الحاجة إلى تركها
فالرجل في مجتمعاتنا يعيش حياته كما يريد. له الحق أن يخرج متى شاء ويعود متى شاء ويفعل ما يشاء، بينما جودة الحياة التي تعيشها زوجته أو أخته أو أمه هو آخر همه. لكن إذا طالبتْ الفتاة ببعض الحرية فإن ذكر العائلة ينتفض كالوحش الكاسر للدفاع عن هذا الحجر كركن أساسي من كرامته وشرفه وخوفه على من يدعي أنه يحبهم.
مفهوم الحب نفسه، في مجتمعاتنا، يكاد يكون نرجسية ذكورية لا تطاق بحيث يتم تسويق هذا الأنانية المفرطة على أنها تضحية وحب من قبل ذكور العائلة بل والمجتمع ككل. هذا المفهوم المغلوط للحب يناسب ثقافتنا وعاداتنا وديننا، حسب قولهم لنا، حتى وإن لم أجد فيه ما يناسبني أو يقنعني البتة.
بعد إتمامي الشهادة الثانوية، عارض والدي ـ كرجل متدين ـ التعليم الجامعي للبنات فبقيت سنة كاملة تحت الحجر. أثناء العزلة، تعلمت بعصامية تامة اللغة الإنكليزية التي لم يكن أحد من أفراد عائلتي يتقنها. فكرت وقتها أنني ربما لو تعلمت لغة هؤلاء الأحرار الذين كنت أراهم على التلفاز يعيشون حياتهم كما يريدون، ربما سأصبح حرة مثلهم في يوم ما.
حلمت كل يوم، بل كل ساعة، بالهروب من هذا الحجر والعيش في بلاد لا يشكل فيها الدين والعادات والتقاليد سيفا للقمع على رقبة كل فتاة. بلاد أستنشق فيها حرية حقيقية. أحببت من كل قلبي الحرية التي لم أكن قد عشتها قط من قبل، لكنني حلمت بها رغم كوني من ثقافة تقدس الحجر لنصف المجتمع وتعتبر الحرية كلمة رديئة، وكأنها معنى آخر للدعارة. بينما يتمتع النصف الآخر من المجتمع بهذه الحرية بلا مساءلة، يستخدمها المجتمع كفزاعة ضد النصف الثاني.
حلمت وحلمت بهذه البلاد حتى أصبح الحلم هوسا ولم يعد أي من السيناريوهات الأخرى لحياتي ممكنا بدونها، فإما الحرية أو الموت. لم يكن في ثقافتي ما يغريني أكثر من الحرية. الزواج من شخص غني ـ مثلا ـ لم يمثل بالنسبة لي إلا الخروج من حجر إلى حجر آخر، ربما بكماليات أكثر لكنه يبقى حجرا. روحي أرادت حياة حقيقية وتجارب مع بشر من كل الدنيا. روحي كانت تشعر بفضول لم تستطع سنوات من الحجر أن تقضي عليه أو حتى تسكنه قليلا.
ساعدتني الحياة عبر سلسلة من الظروف غير المتوقعة واستطعت كسر الحجر المنزلي، ثم استطعت بعدها أن أترك بلدي وأسافر لبلاد أحلامي حيث يسهل تحقيق الذات. حصلت على منحة دراسية فأكملت دراستي حتى حصلت على أعلى الدرجات العلمية. ومنذ ذلك اليوم وأنا أتنفس أوكسجين الحرية، وكم هو منعش استنشاقه، تماما كما تصورته قبل أن أتذوقه.
لسنوات طويلة عندما كان أصدقائي في أميركا وبريطانيا يسألوني إن كنت أشتاق لبلدي. كنت أنظر إليهم وكأنهم يسألون ناجيا من المحرقة إن كان يشتاق لسجنه تحت الحكم النازي وأرد: “طبعا لا!”. فتجربتي في بلدي لم تعكس جمال بلدي وآثاره وتاريخه وغناه بل كانت محاولة دائمة لكسر الحجر بقصد الحصول على القليل من هواء الحرية.
الرجل في مجتمعاتنا يعيش حياته كما يريد. له الحق أن يخرج متى شاء ويعود متى شاء ويفعل ما يشاء، بينما جودة الحياة التي تعيشها زوجته أو أخته أو أمه هو آخر همه
بقيت حوالي عشر سنوات من عمري (ثلث عمري في ذلك الوقت) بدون أي زيارة قبل أن أبدأ بنسيان تجربة الحجر والاشتياق للأشياء الأخرى في بلدي. كنت قد أصبحت مواطنة أميركية حينها وذقت طعم الحرية ولا زلت أخشى عليها أكثر من نفسي. عندما أصبحت حرة أسافر أينما أشاء كلما أشاء، أصبحت أستطيع أن أستمتع ببلدي الأم وكل ما يضمه من روعة. فأصبحت أتلذذ حتى بالأشياء الصغيرة كالمشي بين آثار جرش أو البتراء أو تذوق ألذ طعام تذوقته في حياتي.
أتساءل إذا ما كانت هذه الأزمة ستوقظ مجتمعاتنا العربية والإسلامية من وحشية هذا التقليد الذي لا يحمي سوى التخلف. الكثير من الدول العربية والإسلامية، حسب تقرير لمنتدى الاقتصاد العالمي World Economic Forum، تسجل أعلى نسب التمييز ضد المرأة، وهي مع الأسف في الحضيض. نعم في ذيل القائمة.
ثقافة حجر النساء لا تنعكس فقط على الحالة النفسية لملايين النساء بل أيضا تؤثر على اقتصاد الدول وازدهارها. ولذا، ليس مستغربا عندي أن أكثر الدول نجاحا في تحدي الأزمة العالمية هي دول تقودها نساء تشمل ألمانيا ونيوزيلاندا وفنلندا وأيسلندا والدنمارك والنرويج وغيرها. كرمت هذه الدول نساءها بحماية حقيقية وقوانين عادلة للمرأة وليس بسجنها مدى الحياة ووضع مصيرها تحت أهواء الآخرين، ولذا فهي تجني ثمار تكريمها لها.
وصلت النساء في تلك الدول بدون عزل عن الحياة إلى مراكز إدارية أساسية فهن لسنا مجرد رموز لإرضاء الدول الغربية والحصول على سمعة دول تكرم المرأة بدون تثبيت البنية التحتية الحقيقية لذلك، كما هي الحال في كثير من دول العالم النامي التي تعين سيدة أو اثنتين وتلوح بهما ليل نهار قصد التغطية على أشياء أخرى، بينما أغلبية النساء يحلمن بأبسط الحريات والحقوق، ولا ينلنها.
إن الحجر المنزلي من أقسى ممارسات ثقافتنا. فأتمنى أن تستيقظ ثقافتنا بعد هذا الحجر العالمي على وقع استشعار أهمية الحرية حتى نستمتع بأوطاننا دون الحاجة إلى تركها.