استشهاد شيرين وتحديات الواقع
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

هي جريمة حرب كاملة الأركان، في بلد مشمول شعبُه بالحماية، كونه شعباً تحت الاحتلال، إنها جريمةُ قتل المراسلة الصحافية الفلسطينية المعروفة شيرين أبو عاقلة. اتشح يوم الأربعاء الذي صادف يوم استشهادها بالسواد في فلسطين، التي اعتادت أن تلبس السواد على أرواح سيل الشهداء الذي يتدفق بصورة يومية، وبات أكثر كثافة خلال الأعوام القليلة الماضية. أجَّجت جريمة قتل شيرين الغضب في قلب كل فلسطيني، في داخل فلسطين وخارجها وفي قلب كل عربي أو غير عربي يحمل بين ضلوعه النخوة والشهامة، ليس لأن شيرين مراسلة قناة الجزيرة، التي تدخل كل بيت عربي تقريباً، وليس لأن الفلسطينيين ألِفوا صوتها وطلّتها منذ أكثر من ربع قرن، بل لأن هذه الجريمة ذكرتنا بمحنتنا كفلسطينيين، خصوصاً وأنها جاءت متزامنة مع ذكرى يوم نكبتنا الـ ٧٤. أشعل استشهاد شيرين، الفتاة الفلسطينية الجريئة، والتي تشبه إلى حد كبير أبناء جيلها من فتيان وفتيات فلسطين، شرارةَ الغضب الفلسطيني. فصورتها التي كررت قناة الجزيرة بثها منذ لحظة استشهادها حتى اليوم، مرات ومرات، وهي تنزف على تراب جنين، ما هي الا صورة متكررة بشكل يومي في بلادي لكن بأشكال وأسماء وأعمار مختلفة.

الفلسطينيون وجدوا في شيرين الرمزية التي باتوا في أمسّ الحاجة إليها، في لحظة افتُقد فيها الأمل. في يوم استشهاد شيرين، استُشهد فتى بالقرب من مدرسته في البيرة برصاصة واحدة اخترقت صدره الصغير، وتُرك ينزف في الشارع حتى الموت، بعد أن منعت قوات الاحتلال التي قتلته وصول سيارة الإسعاف اليه. وهو ليس وحده، اذ اقترب عدد شهداء فلسطين منذ بداية هذا العام من الستين، وأكثر من ٩٠٠ معتقل.

شيرين ليست الصحافية الوحيدة التي استشهدت بنيران الاحتلال، فسبقها ٢٣ صحافياً منذ العام ٢٠٠٨، و٥٤ صحافياً منذ العام ٢٠٠٠، وحوالى ١٠٠ صحافي منذ سبعينات القرن الماضي، والتي استُهلّت باغتيال الصحافي والروائي الملهم غسان كنفاني عام ١٩٧٢. ليس الصحافيون فقط من يُستهدفون بشكل مباشر في بلادي، فحتى المسعفون والأطباء يُستشهدون أثناء تأدية واجبهم المقدس. من منا ينسى رزان النجار، تلك المسعفة المتطوعة اليافعة الشابة التي استشهدت في غزة أثناء إسعافها لأحد مصابي مسيرات العودة عام ٢٠١٨. يأتي كل ذلك الألم مصحوباً بممارسات الاحتلال التي تعمل أمام أعين الفلسطينيين لتغيير واقع أرضهم جغرافياً وديمغرافياً، مستقويةً عليهم ناهبةً أرضهم وهادمةً بيوتهم وقاتلةً فلذات أكبادهم، وناقلةً المستوطنين اليهود ليعيشوا في أرضهم وبينهم. كل هذا الواقع الأليم أحيته شيرين في أذهان الفلسطينيين لحظة استشهادها، في ظل استمرار النكبة الفلسطينية تخطت السبعة عقود، واستمرار الاحتلال بممارساته غير الأخلاقية أو الإنسانية أو القانونية بحق الفلسطينيين، دون مُراجع أو محاسب، ودون وجود أُفق سياسي أو حتى رؤية متفائلة مستقبلية ممكنة تغير من هذا الواقع المر.

لا أُفقَ سياسياً ولا أُفقَ قانونياً متاحاً أمام الفلسطينيين، ولم يكن يوماً متاحاً لهم، حتى قبل نكبتهم. فتوجُّه القوى العظمى لحل مشكلة اليهود وتحقيق أهدافها في الشرق الأوسط جعل من ظلم هذا الشعب قضية مستدامة، منذ ذلك الوقت، وحتى يومنا الحاضر. بدأت ذلك بوعد بلفور ١٩١٧، والاحتلال ومن بعده الانتداب البريطاني على فلسطين، وذلك لتنفيذ خطة احضار اللاجئين اليهود من أوروبا وزرعهم في فلسطين، لتغيير الوضع الديمغرافي بالقوة على الأرض. وجاءت المرحلة الثانية بطرح فكرة تقسيم بلاد الفلسطينيين بين أهلها والغرباء الجدد، خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، وترسيخ ذلك البعد قانونياً من خلال قرار الجمعية العامة رقم ١٨١ أي قرار التقسيم، والذي صدر أيضاً باتفاق من قبل ذات الدول الغربية التي أقرت قرار عصبة الأمم بتكليف بريطانيا للانتداب على فلسطين. وفي النهاية قامت الأمم المتحدة بترسيخ وجود إسرائيل سياسياً بالاعتراف بوجودها وعضويتها في الأمم المتحدة، استناداً إلى قرار التقسيم، رغم عدم التزامها بشروط ذلك القبول حتى اليوم.

بعد احتلال إسرائيل لباقي الأراضي الفلسطينية وأراضٍ عربية أخرى أصدر مجلس الأمن القرار ٢٤٢، والذي يدعو إسرائيل صراحة للانسحاب من تلك الأراضي المحتلة، لم يتحرك مجلس الأمن رغم رفض إسرائيل تنفيذ ذلك القرار، رغم أنه قرار ملزم لمجلس الأمن، وبقيت القضية تراوح مكانها خلال عهد الحرب الباردة.

بعد سيادة الولايات المتحدة كقطب أوحد في هذا العالم، وتحييد الطرف السوفييتي تماماً، جر الفلسطينيون، بوساطة أميركية إلى دوامة السلام والمفاوضات، في ظل تبني إسرائيل سياسة تغيير واقع الأراضي الفلسطينية المحتلة جغرافياً وديمغرافياً، في سبيل تغيير وضعها القانوني والسياسي بعد ذلك. واليوم وفي ظل توقف دوّامة المفاوضات منذ سنوات، يكافح الفلسطينيون بشكل يضمن لهم فقط البقاء، في ظل ممارسات الاحتلال من القتل والاعتقال وسلب الأراضي والهدم والتدمير. وكانت شرين وكل شهداء فلسطين ضحايا هذا الظلم الاحتلالي المسكوت عنه بحق الفلسطينيين، وكان الأسرى الفلسطينيون الذين قضوا جل حياتهم في سجون الاحتلال الشاهد الصارخ على أطول احتلال وسنوات أسر عرفتها البشرية.

ورغم تطور النظام الدولي ومعاملاته وقواعده التي لحقت بالبشرية، حيث صيغت المعاهدات المتعددة الخاصة بقانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وأنشأت المحكمة الجنائية الدولية، التي يفترض أن يلجأ الفلسطينيون اليها، نتيجة تخصصها في انتهاكات إسرائيل بقي القانون في حالتهم بعيداً عن التطبيق، ولم ينفَّذ ولو لمرة واحدة، رغم أنها حالة احتلال مثبّتة بقرارات الشرعية الدولية، وأحكام انتهاكاتها واضحة على مستوى قواعد القانون الدولي العرفية والتعاقدية.

لم يحاكَم قائد أو جندي إسرائيلي واحد على كل هذه الجرائم الجلية بحق الفلسطينيين، منذ عام ١٩٤٨ حتى اليوم. ومن الواضح أن كريم خان المدعي العام الحالي للمحكمة الجنائية لن يحرك أياً من القضايا في وقت قريب.

وفي مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، والذي يمكنه اتخاذ قرارات تتعلق بانتهاكات جسيمة بحقوق الانسان، وتحويل تلك الانتهاكات للمحكمة الجنائية لاخضاعها للتحقيق، تعاني هذه القرارات من ضرورة اجتيازها أولًا أغلبية الجمعية العامة، وهو بالأمر الممكن، الا أن ذلك القرار ينتهي، كما ومعظم مشاريع القرارات بالسقوط في مجلس الأمن بفعل «الفيتو» الأميركي. وحتى في إطار نظام الولاية القضائية الدولية، والتي تقوم الدول، من خلال نظامها القانوني المحلي بالتحقيق في جرائم انتهاكات حقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني، والتي تقترفها إسرائيل بحق الفلسطينيين، وذلك وفق التزاماتها في معاهدات دولية متعددة، لحماية هذه الحقوق على المستوى الدولي، غالباً ما نجحت إسرائيل بإحباطها من خلال اتفاقيات ثنائية أو صفقات سياسية.

خلاصة القول، يبقى الحق الفلسطيني ثابتاً، لا يمكن إنكاره أو إغفاله مهما طال أمد المؤامرات السياسية على الشعب الفلسطيني، ومهما بلغت حدود الظلم. وعلى العكس، يولد العنف الانفجار، بينما يولد الظلم الكفاح من أجل تحقيق العدالة. لقد نجحت إسرائيل في إرغام الفلسطينيين التخلي اليوم عن حل الدولتين، الذي قبلوا به رغم كل التحفظات حوله، إذ لم يبقَ أمامهم الا النضال من أجل فلسطين وحريتهم وحياتهم ومستقبل أبنائهم. كما أوضحت حادثة استشهاد شيرين أبو عاقلة فشل المراهنات على قبول الفلسطينيين التعايش مع الاحتلال القائم، اذ إن استشهادها فجّر مخزون الغضب الكامن في نفوسهم والتمرد على الاحتلال، رغم كل ما تقوم به إسرائيل من إجراءات تعسفية وقمعية بحقهم وخاصة في مدينة القدس، عاصمة فلسطين الأبدية.

زر الذهاب إلى الأعلى