حول أزمة الكادر الإخواني* بابكر فيصل
النشرة الدولية –
تعاني جماعة الإخوان المسلمين من العديد من الإشكالات الفكرية التي تجعل منها جماعة حديدية تستعصي على الانفتاح ومجاراة روح العصر، وتأتي في مقدمتها قضية إقصاء الآخر المُختلِف، وهي مشكلة نابعة من التأصيل الفكري الذي ينبني على مظنة امتلاك الحقيقة المُطلقة، كما أن الجماعة تعاني أيضا من مشاكل تتعلق بطبيعة التنظيم والأسس التي يقوم عليها عملها.
من بين المشاكل العديدة التي تصاحب التكوين الفكري والتنظيمي للكادر الإخواني تبرز مشكلة “التحكم” الهادفة لوضع عضو الجماعة تحت السيطرة الكاملة حتى يتحول لأداة طيعة في يد القيادة، وغالبا ما تظهر هذه المشكلة في مرحلة باكرة من حياة العضو الذي تسعى الجماعة لتربيته وذرع توجهاتها الأيديولوجية في شخصيته منذ سنوات الطفولة وهو أمر شاذ يمنع التطور الطبيعي لحياة الأطفال.
يشير الدكتور صديق أمبدة، إلى أن عملية تجنيد الكادر الإخواني تكون “في الغالب بواسطة المعلمين، بداية بدعوة التلاميذ لأداء الصلاة بصورة إجبارية، باعتبارهم آباء لهؤلاء التلاميذ ومن حقهم تقويم سلوكهم الديني، وعن طريق الإشراف على الجمعيات المدرسية والداخليات والمسجد، ثم تبدأ الدروس الدينية اليومية بتركيز على أفكار الإمام حسن البنا ووصاياه وكتبه التربوية مثل كتاب “طريق الجنة”.
يتولى التنظيم رعاية العضو في مختلف مراحل التعليم، ويُوجِّه اختياراته الأكاديمية، ويوفر له الوظيفة ومصدر الدخل، ويُزوِّجه من إحدى الأخوات بالجماعة
ينخدع الآباء والأمهات بسلوك أبنائهم ـ التلاميذ ـ الديني (المظهري) القويم معتقدين بأنهم فقط متدينين. وحين يبدأ هؤلاء في إغلاق التلفزيون وفرض وجهة نظرهم الجديدة على أخواتهم في المنزل وتكشيرة الوجه حتى تجاه سلوك الأب أو لبس الأم تفيق الأسرة إلى حقيقة أنهم في ضفة أخري وأن الأوان قد فات على النقاش.
في هذا الإطار يحكي الكاتب سامح فايز جزءا من معاناته التي عاشها في صفوف الجماعة، حيث يقول في كتابه “جنة الإخوان” الذي سرد فيه رحلة خروجه من التنظيم الإخواني:
“كنا نبدأ يومنا بعد صلاة الفجر، نذهب للمسجد ونصلي، ومن ثم نلبث قليلا في المسجد نقرأ القرآن وبعض الأذكار والأدعية، ثم يُسأل كل منا عن تأدية بعض التكليفات التي تكون قد طلبت منه خلال الأسبوع الماضي… وكان كل ذلك يُسجَّل في ورقة على شكل مربعات، ونُقيم كل عمل في الخانة التي تقابله بوضع علامات تفيد بالقيام بالعمل أو عدم القيام به. ربما هذا الورد تسبب في كرهي للجداول والنظام وترتيب يومي، ذلك أنني دائما ما كنت أعجز عن القيام بكل ما فيه، بالإضافة إلى كوني طفلا في الحادية عشر من عمره من المفترض أن يكون مع الأطفال في مثل سنه الآن يلعب ويلهو، يثير القلاقل ويزعج والديه بتلك الشقاوة المعهودة في الأطفال، يشارك الأطفال حياتهم التي تناسب تلك السن، لا أن يقوم بأشياء يعجز عن الإتيان بها رجال ذوو شوارب”.
يتم التقاط الكادر لصفوف الجماعة في مرحلة مبكرة من مراحل حياته، حيث يجري احتواؤه بشكل كامل، حتى يتحول التنظيم إلى “أسرة بديلة” عن أسرته الطبيعية، أسرة تختار له رفقته وصداقاته وطرائق تعامله، وتُحدِّد مسار حياته، وتتكفل بحل مشاكله واتخاذ كافة القرارات المصيرية المتعلقة به.
يتولى التنظيم رعاية العضو في مختلف مراحل التعليم، ويُوجِّه اختياراته الأكاديمية، ويوفر له الوظيفة ومصدر الدخل، ويُزوِّجه من إحدى الأخوات بالجماعة. وفوق هذا وذاك يقع العضو فريسة لما يُعرف في علم النفس بالحرمان الحسي، حيث يتم عزله عن كل ما يحيط به ويصبح التنظيم هو المصدر الوحيد الذي يتلقى عنه كل شيء، وهكذا تتم السيطرة على الكادر، مما يجعله مستغنيا عن كل ما هو خارج إطار الجماعة.
تمضي الجماعة في سبيل السيطرة على العضو لدرجة أنها تختار له ملابسه التي يرتديها، فها هو القيادي في فرع الجماعة بالسودان، أمين حسن عمر، يصف نوع الزي الذي يجب أن يرتديه كادر الإخوان بالجامعة:
“الزي الرسمي بالنسبة لهم عدم إتباع الموضات، لا بد أن تكون في البنطلون طية، وإذا لم توجد يكون هذا خروجا عن المألوف، والألوان المشجرة غير مقبولة وكذلك الصارخة، فالقميص لا بد أن يكون أبيض أو بيج أو أزرق فاتح، والقميص لا بد أن يكون كم طويل وبأزرار، ويجب عدم طي أطرافه والحذاء عادي ويغلق بسحَّاب من الجانب.. وكل الموضات في اللبس مستنكرة عند الاتجاه الإسلامي”.
الحرية شرطٌ ضروري للإبداع الإنساني، فكيف إذن يستطيع الإبداع من لا يملك حتى حرية اختيار ملابسه؟
أعضاء الجماعة محكومون بمنهج صارم يكبت الرغبات والميول الإنسانية الطبيعية ويقتل المواهب ويحصر الطاقات والجهود في كل ما من شأنه خدمة مصلحة الجماعة، حتى القرآن الكريم يقرؤونه وفق تصورات يقينية بأنهم فئة مختلفة عن بقية فئات المجتمع فتجدهم يركزون بصفة خاصة على سورة الكهف، باعتبار أنهم هُم الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى.
لهذا السبب فإنه من النادر جدا أن تجد بروزا لكوادر الجماعة في الأنشطة المرتبطة بالإبداع الإنساني والمُعبِّرة عن التواصل مع الناس والمجتمع، أين الروائيون والتشكيليون والممثلون الذين أنجبهم التنظيم؟ أين الفنانون الموهوبون والرياضيون؟
في هذا الإطار يقول سامح فايز في كتابه المشار إليه أعلاه “أذكر أنه في مرحلة من مراحل الترك (أي ترك الجماعة) مر عليَّ عام كامل وكأني راهب يحيا في صومعة، قيام وصلاة وقرآن ودعاء، كنت أسعى لقتل تلك الوساوس، لأن أشد من أزري الواهن، كما أخبروني، كنت في عزلة تامة عن كل ما هو دنيوي، وكنت دائما ما أسعى للتطهر من هذا الرجس والنجس الذي تفشى في مجتمعاتنا، غناء وفن وحب وملهاه عن ذكر الله، هل مر على أحدكم عام كامل لم يشاهد تلفازا أو يستمع لإحدى روائع أم كلثوم؟”.
الحرية شرطٌ ضروري للإبداع الإنساني، فكيف إذن يستطيع الإبداع من لا يملك حتى حرية اختيار ملابسه؟
هذه الأسباب تجعل كوادر الإخوان يعيشون في غربة عن المجتمع، فهم لا يتداخلون مع الناس إلا في حدود خدمة أجندة التنظيم، وهم أيضا لا يعرفون شيئا خارج إطار الجماعة، ولا يفقهون شيئا اسمه الاختلاف والتنوع، حيث تربوا على نهج الطاعة المطلقة الذي يُعاقب كل مختلف بعنفٍ رادع، ولا يسمح بتعدد الآراء والأفكار، ويتحكم في جميع شؤون الكادر حتى الشخصية منها.