المكان الخطأ في بغداد… والتوقيت أيضا
بقلم: سليمان جودة

النشرة الدولية –

أعادني نبأ رفع عَلم المثليين في بغداد، المنشور أول هذا الأسبوع، إلى كتاب السيرة الذاتية للدكتور أحمد عكاشة، الذي صدر في القاهرة أول هذه السنة تحت هذا العنوان: نفسي… حكايات من السيرة الذاتية!

وما يفهمه القارئ من العنوان في حد ذاته، أن مضمون الكتاب ليس سيرة ذاتية كاملة، ولا هو كل حكايات السيرة الذاتية للرجل، لا لشيء، إلا لأن الدكتور عكاشة، أستاذ الطب النفسي الشهير، والرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي، يرى أن «المجالس أمانات» وأن ما يدور بينه وبين مرضاه يقع ضمن هذه المجالس، وأنه بالتالي ليس مُطلق اليد في الحديث عما بينه وبين المرضي الذين يترددون عليه!

ولكن هذا على كل حال موضوع آخر، لأن موضوعنا هنا هو ما ورد في الكتاب عن المثلية، وعن المثليين، وعن نظرة طب النفس إلى القضية في مجملها!

قال في كتابه: «ومنذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، فإن المثلية الجنسية لم تعد تُصنف كمرض يستوجب العلاج، بل باتت تُصنف بأنها أسلوب حياة، وعندما يأتيني أحد الآباء ويطلب مني التدخل في مثل هذه الحالات، أخبره بأن الطب النفسي حسم الأمر، ولم يعد يعدها مرضاً نفسياً، بل هي أسلوب حياة، ولا نمتلك تدخلاً علاجياً في ذلك»!

ثم يقول أيضاً: «وكثيراً ما ينفعل أولياء أمور عندما يعَلمون أن أبناءهم من مثليِّي الجنس، ويُحضرونهم للعيادة طلباً للعلاج. بعضهم حدّثني عن رغبته في قتل أولادهم هؤلاء، ولكني أتدخل عندئذ كطبيب وكإنسان، وأخبرهم بأن الدين لم يأمر بذلك. هناك سوء تفسير لذلك. وأنا أتحرك في قصة الجنسية المثلية تحت قبعتين؛ الأولى قبعة الطبيب النفسي حيث تُعد هذه الجنسية المثلية الآن أسلوب حياة وليس مرضاً، والأخرى قبعة دينية ترفض هذا الاضطراب وتعدّه من المحرمات»!

هذا باختصار ما جاء في الكتاب عن موضوع لا يكاد يتوارى عن الناس في مناطق متفرقة من العالم، حتى يعود ليطلّ برأسه من جديد!

وحين عاد ليطلّ هذه المرة، فإنه قد أطل في المكان الخطأ بالتأكيد، ثم إنه اختار أيضاً التوقيت الخطأ عندما أطلّ في زمن الوباء!

المكان خطأ بالثلاثة لأن ما لم تدركه بعثة الاتحاد الأوروبي مع بعض السفارات الغربية، وهي ترفع عَلم المثليين على مبانيها في بغداد، أن بغداد عاصمة لدولة اسمها العراق، وأن هذه الدولة العراقية دولة إسلامية، وأنها عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي!

 

ولأن هذا كله صحيح، فلقد كان رفع العَلم فيها من قبيل الأخطاء الكبيرة التي لا نعرف كيف فاتت على بعثة الاتحاد الأوروبي، وكذلك فاتت على عدد من سفارات الغرب التي شاركت بعثة الاتحاد الفعل نفسه. فهذا فعل يؤذي مشاعر كل عراقي، وهو فعل يتنافى مع الأعراف والتقاليد التي نشأ وشبّ عليها الشعب العراقي، ولن تجد عراقياً واحداً يقبل بما حدث أو يهضمه!

وليس عذراً أن يقال على سبيل التبرير من جانب بعثة الاتحاد، أو من جانب أي بعثة دبلوماسية غربية أخرى ارتكبت الخطأ ذاته، إن رفع العَلم قد وافق ما يسمى اليوم العالمي لمناهضة رهاب المثلية والتحول الجنسي وتسليط الضوء على حقوق المثليين!

ليس عذراً، وإذا كان يصلح كعذر، فهو من نوع العذر الذي يوصف بأنه أقبح من ذنب، وإلا، فإن على بعثة الاتحاد الأوروبي أن تتلفت حولها في بغداد، ثم في العراق من شماله إلى جنوبه، ومع العراق سائر العواصم في العالم العربي والعالم الإسلامي، لترى ما إذا كانت خطوة من نوع ما أقدمت عليه، سوف يكون لها محل من الإعراب تحت أي مسمى؟!

ومن سوء حظ مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي الجديد، أن يقع هذا الخطأ من جانب مرتكبيه، ولم يمر سوى أسبوعين على خروج حكومته إلى النور. وقد صار سوء حظه مضروباً في اثنين لأنه يتولى وزارة الخارجية إلى جانب رئاسة الحكومة، ولذلك، فهو الذي سيكون عليه أن يتصرف وأن يتخذ من الإجراءات ما يهدئ من سخط المواطن العراقي مما جرى!

وقد ثار البرلمان في بغداد وأبدى استياءه، وأصدرت لجنة الشؤون الخارجية فيه بياناً غاضباً، وتحركت كتل برلمانية تدعو الكاظمي إلى أن ينظر ماذا يرى؟! وكان هذا كله مما يشير إلى أن البعثات الدبلوماسية الغربية التي رفعت العَلم إياه كانت ترفعه في غير مكانه!

وأما التوقيت فلم يكن هو المناسب بأي مقياس، لأننا حين نسلم بأن المثلية الجنسية لم تعد في نظر الطب النفسي مرضاً، وأن الطب النفسي قد صار يتطلع إليها بوصفها أسلوب حياة، فإننا سيكون علينا أن نسلم في اللحظة ذاتها بأن قبعة الإنسان التي قال الدكتور عكاشة إنه يرتديها إلى جوار قبعته كطبيب، لا تقرّ هذا الأسلوب في الحياة، وترفضه تماماً، وتراه من المحرمات التي لا فصال حولها!

وبما أن هذه القبعة الأخرى هي قبعة الإنسان السوي في العموم، فليس من طبع مثل هذا الإنسان أن يجد نفسه على وفاق مع المثلية الجنسية التي رفعت البعثات الأوروبية شارتها، حتى ولو كانت هذه المثلية قد أصبحت من قبيل أسلوب الحياة لدى فرع الطب النفسي على وجه الخصوص!

إن حديث الدكتور عكاشة كإنسان عنها بوصفها من المحرمات، يعني أنها من الأشياء التي لا ترضى عنها السماء، ولا تقبل بها ولا تتسامح مع أصحابها. ومن باب أولى أن يبحث الإنسان عن رضا السماء في زمن الوباء، لا أن يثير غضبها ولا أن يتمادى فيما لا يتفق مع تعليماتها الأخلاقية!

وإذا كانت الأسباب التي أطلقت «كورونا» على العالم مختلفة في تفسيراتها، ومحيّرة في أبعادها، وغامضة في بداياتها، فمن بينها سبب ديني أخلاقي لا تخطئه العين في الأحاديث الدائرة حول الفيروس، وهو سبب قد تراه أنت ولا أراه أنا، ولكنّ هذا لا ينفي وجوده ولا منطقيته ولا وجاهته في كل حال. إنه سبب يتعلق بعلاقة أهل الأرض بالسماء، وما إذا كانت علاقة تعرف الإخلاص وتتحرى معانيه أم أنها تخاصمه وتفتقر إليه؟!

فإذا وضعنا المكان الخطأ إلى جانب التوقيت الخطأ، في قضية العَلم الذي ارتفع فجأة في بغداد ومن دون مقدمات، وجدنا أنفسنا أمام خطأ مركب، وهو خطأ يفتقر إلى اللياقة بمثل ما يفتقر إلى التوفيق في حسن اختيار المكان والزمان!

هذا مع الانتباه إلى أن نسبية المكان قد تكون مقبولة، لأن ما تراه أمة خطأً لا يجوز، قد لا تراه أمة غيرها كذلك، ولكن نسبية التوقيت في قضية الخطأ عموماً، وفي هذه القضية خصوصاً، مسألة يصعب القبول بها، لأن ما كان خطأ لا يتواءم مع فطرة الإنسان السويّ في أول الزمان، قد ظل خطأ إلى الآن بالدرجة نفسها، وسوف يبقى خطأ إلى آخر الزمان!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى