لن تحبّ المرأة رجلا، تخافه،أو يخافها؛ لا يبيت الخوف مع الحبّ!
وفاء أخضر
النشرة الدولية –
اكتشف أنّي أخونه.
وجدْتُ الباب الرئيسي للمنزل مقفلا، الوقت متأخّر جدّا وأنا وحدي مع مشاعر إثم وخوف! تماما كتلك التي شعرت بها في منزل أهلي في الفترة التي كنت أتعرّف فيها على زوجي محمد سعيد.
كنا نخرج معاً غالبا، خفية وخلسة؛ أتسلّل من شبّاك الحمّام إلى السّطح وأعبر من سطحنا إلى سطح الجيران. كان الدخول إلى المنزل يربكني أكثر من الخروج، غالباً ما أجد أمّي بانتظاري، أمام الباب الرئيسي، آخذ طريقي السرّي ذاك وأتسلّل إلى سريري بسرعة وأتصنّع النّوم العميق. تقضي أمّي معظم ليلها خارجا بانتظاري، حتّى يصبح قلقها أكبر من أن تحمله وحدها، توقظ أبي شاكية جنوني وعدم قدرتها على ضبط سلوكي؛ يدخل أبي غرفتي غاضبا منفوش الشعر بعينين منتفختين حمراوين ليجدني أشبه بجثة هامدة في سريري! تختلط الأمور على أمّي وتميل إلى تصديق أنّها عميت عن رؤيتي في السّرير، تصدّق هذا، رغم أنّ ابن الجيران أكدّ لها أنّه لمحني خارجة منذ ساعات. نحن دوما أميل أن نصدّق ما يريحنا، لا يشغلنا هاجس الحقيقة، كما نزعم أوندّعي.
كان الوقت متأخّراَ جدّا، الثالثة صباحا؛ منذ مدّة غير قصيرة، أصبح نومي متقطّعا. صحيح أنّي دوما، كنت قلقة، أقضي معظم الليل في غرفة المكتبة، أو في المطبخ، أحضّر أطباق حلوى وخبزا؛ لكنّي منذ فقدت ابنتي، فقدت الرّغبة بأشياء كثيرة، منها تحضير الحلوى. أستيقظ، أقرأ أو أحادث عمر في ما يقرأه، وفي ما يكتبه؛ أصغي إليه بلذّة ودهشة. لم أفقه ذاك اليوم غضبه الشديد، عندما سخرت من الأساطير وساويتها بالتخاريف!
كنّا نتحدّث عن حكاية يونس وأسميتها أسطورة وأردفت أنّ كلّ هذه الحكايات هي مجرّد تهويمات لا علاقة لها بالواقع. كنت أسخر من الإيمان اليقينيّ بكلّ صوره، ولا أمارس حقيقة قيمة احترام فكر الآخر ولا يخطر لي إمكانية تفكيكه، أقف عند الحدث عينه؛ يشغلني هاجس الصّح والخطأ وثنائية العالم، والحقيقة العلمية اليقينية الإستعلائية… أغاظت طريقة تفكيري هذه عمر، بحكم تكوينه الصّوفي، ونعتها بالسّطحية، وبسبب تعبه الشديد من يوم عمل طويل وكي لا يؤذيني بغضبه كما قال، استأذن، أقفل الهاتف وتركني وحدي. خرجت إلى الحديقة؛ أخذت أسترجع بعض أحاديثي مع عمر حول الطّقوس الدينية التي كنت أسخر منها، كخلع الحذاء مثلاً عند دخول الجامع.
قلت له:
_ هذا أراه إهانة للإنسان وإلزاما مذلّا له وقمعا لحريته.
_ لم لا ترينه تحريرا له من عبء اللباس، ودعوة لأن يتخلّص مما يرهقه؟
حكى لي حكاية مقولة الله لموسى : “اخلع نعليك أنت في الوادي المقدّس”… أي أنّك في راحة وأمان تامّين مطلقين. راقني هذا التأويل، وبدا لي منطقيا… وجدتني أرى العالم والحقيقة بطريقة جديدة؛ فعلاقتنا بهذا العالم علاقة تأويلات وتفسيرات ولغة فعلا.
لن نكون يوما حقيقيين، مفهوم الحقيقة فضفاض نسبيّ، نحن لسنا كائنات من حقيقة وقوانين وحسب. وعينا بحدّ ذاته خروج على أيّ قانون!
بدأت أشعر أنّ عمر ليس مجرّد مشروع حبيب قديم، أو صديق جديد في حياتي؛ جاء في هذا الوقت بالذّات لأرى العالم كما لم أره من قبل، لأتصالح مع نفسي، مع ماضيّ، ومع الله. كنت غارقة في تأمّلاتي وأنا أحاول أن أفتح باب المدخل عبثا! هو مقفل بإحكام! “لن أطرق الباب وأوقظهم.”
جلست على العشب في الحديقة، برد الصباح اخترق قميص نومي الخفيف الشفّاف. فجأة شعرت بالخوف كأنّي آثمة! الواقع أنا خارج المنزل وطوال الليل تقريبا؛ من سيصدّق أنّي أثرثر أو أتأمّل؛ ومن الذي أقفل الباب؟ هل هو ابني الصّغير آدم؟ لكنّه كان ليناديني… وقبل أن أسترسل في تساؤلاتي، فُتح الباب وزوجي يقف خلفه بثيابه كاملة وبيده سيجارة يدخنّها بعصبية شديدة. منظره وغضبه ملآني خوفا، امتقع وجهي وارتعد جسدي؛ انتبهت أنّي أخشاه كثيرا.
_ أين كنت أيتها الزوج المصون المحترمة ؟
قالها بسخرية وغضب شديدين وهو ينظر إلى ثوب النوم الذي أرتدي و الذي يكشف أكثر مما يستر.
تلعثمت، ومرّت في خاطري هواجسه المحتّمة؛ هوذا المنطق، السّياق السّائد والمحتمل! وامتلأت شعورا بالذّنب والخوف كأنّي فعلا أخونه، مما جعله يستأسد ويصرخ قائلا :
_ أنا أراقبك منذ مدّة؛ ها هي الحقيقة أخيرا اتضحت. أين هو ؟ اليوم ينتهي كلّ هذا؛ لن تكون لي زوجة خائنة بعد اليوم.
لم أدافع عن نفسي؛ دخلت البيت بصمت، ذنبي إن كان هذا ذنبا أنّي كنت أحادث عمر هاتفيا. أمّا هذا السناريو الذي تخيّله وذكره لا يشبهني! العالم حولنا يضع لنا إطارا ويرانا داخله، صعب أن نفقه ما لم نعتده! أتذكّر يوم كنت أخرج باكرا جدّا في الطّريق البرّي آخر الضّيعة لأمارس رياضة العدو، أنّ المرأة التي تسكن في منزل مواجه للطّريق هناك؛ قالت لأمّي ولجاراتها أنّي يوميا وكلّ ليلة أخرج مع شاب، وأمضي ليلي معه؛ وأعود مع طلوع الشّمس( هي كانت تراني وأنا عائدة ولا تراني وأنا ذاهبة فجرا، ولأنّه من غير المعتاد أن تخرج الفتيات لممارسة الرياضة؛ والفتاة لا تخرج وحدها إلا لمقابلة فتى ما ). أذكر أنّ زوجي سألني عن هذا لمّا تعارفنا. قال:
أهل الضيعة يقولون عنك كذا…
ضحكت حينها طويلا وحكيت له عن الريجيم الصّارم الذي اتبعته والرّياضة الصّباحية التي كنت أحرص على القيام بها قبل ذهابي إلى العمل؛ زعم أنه صدّقني وابتسم ابتسامة صفراء.
كرّت أمام عينيّ أكاذيبي الكثيرة معه التي باتت أسلوب حياة اعتمدته لأتحاشى الصّراخ والمشاكل، لا يصدّق إلّا ما هو سائد ومتداول وعاديّ؛ طفرات سلوكي البسيطة غير المألوفة تربكه، وتثير في رأسه تساؤلات عدّة، كما حصل معي ذاك اليوم، يوم الخيانة المفترض.
لربما هذا الحدث يوم حصل أخافني، أو أرعبني، لكنّي بعدها عرفت أنّه حرّرني، حرّرني من زوجي ومن الكذب ومن الخوف؛ حتّى الموت الذي آلمني شديدا، عقدت مصالحة معه! لكن رغم هذا، أنا الآن لا أريد أن أموت!
من رواية ( أنا أخطئ كثيرا)