بين الملك فيصل وأمريكا وسعيد ومالكولم وجورج وبلال* علي صالح الضريبي
النشرة الدولية –
روى الوزير والسفير السعودي الراحل/ هشام بن محيي الدين ناظر، رحمه الله في مذكراته، هذه القصة عن الملك الانسان، فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله:
أنه والوفد المرافق عندما كانوا في نيويورك مع الملك فيصل في يونيو عام 1966، في زيارة رسمية لأمريكا، لحضور اجتماعات الأمم المتحدة، يومها كانت العنصرية لا زالت – ولم تزل !- جاثمة على صدر الولايات المتحدة الأمريكية، وفي يومٍ من الأيام قرر الفيصل الخروج لتناول الطعام مع الوفد المرافق، في أحد مطاعم نيويورك وكان من المرافقين سعيد آدم، الرجل الهادئ والخلوق، وكان واحداً من أوائل المبتعثين السعوديين للدراسة في الخارج، وتحديداً في أمريكا. يقول ناظر، وخلال تقديم الطعام قدّم النادل (الأبيض) الطعام للملك ومرافقيه، واستثنى منهم سعيد آدم لكونه ذا بشرة داكنة اللون!، وهو ما دفع الملك فيصل للوقوف وتقديم الطعام بنفسه لسعيد، مع أول المذهولين من الموقف “سعيد” نفسه والنادل “الأبيض” وجميع الحضور في المطعم!.. هنا بادر سعيد لثني الملك عن ما يفعله، فما كان من الفيصل إلا أن نهره بلطف قائلاً: اجلس يا سعيد، ودعني أُلقّن هذا النادل العنصري درساً لعله يستفيد منه!
لم أتعجب من صحة هذه القصة، وملك التواضع والانسانية فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، يصدق فيه بيت “ابن عمار” هذا أكثر من الملك الذي قيل فيه البيت:
ملكٌ يروقك خُلقهُ أو خَلقهُ
كالروضِ يُحسنُ منظراً أو مخبرا
ولكنني تعجبت من تأخر اطلاعي عليها!.. وما خفي في خُلق الفيصل أعظم.. وهي القصة التي أعطى فيها الملك فيصل، درساً حضارياً من قلب نيوريورك، مهد المدنية الحديثة في العالم.. فحواها، بأن مقياس الفرق بين “الحضارة” و “المدنية” يكمن في الأخلاق، فأي مدنية تقوم بلا أخلاق، هي مدنية مادية جامدة تبتعد عن احترام كينونة الانسان الذي يشغل حيزه المادي، جزءاً روحياً لا ينتعش إلا بالأخلاق والقيم. وصدق أعظم ممدوح من أعظم مادح: “وإنك لعلى خُلقٍ عظيم”.. عندما أبان للعالم فحوى ما بُعث به: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
والشيء بالشيء يذكر ويدعم بعضه بعضا.. قبل هذه القصة بعامين تقريباً، في عام 1964، زار السعودية واحد من أشهر مناضلي الحقوق المدنية وحقوق السود في القرن العشرين، مالكولم إكس، بغرض أداء فريضة الحج، وذُهِل مما رأى من مشهد الحجاج.. عندما رأى الأسود والأبيض والأحمر.. على مسافة واحدة يجمعهم دين واحد ولباس أبيض واحد. وقبلها التقى مالكولم بالملك فيصل في جدة، وهنا تحدث معه الملك ، عن خطأ ما تذهب إليه منظمة “أمة الاسلام” في أمريكا، والتي كان ينتمي لها مالكولم حينها، في تفسير الاسلام، من أنه خاص ب “السود” فقط !.. وبعد انتهاء الملك من حديثه، لم يكن يحتاج مالكولم إلى شرحٍ وتفصيل أكثر من الملك، ومنظر الحجاج بألوانهم المختلفة وهم على مسافة واحدة ولباس ودين واحد، لم يزل مستقراً أمام بصره وبصيرته. وكان هذا اللقاء منعطفاً كبيراً في تغيير مالكولم إكس من قناعاته المتطرفة ضد البيض وتعصبه للسود، وتركه لمنظمة “أمة الاسلام”، وانشائه لمنظمة اسلامية جديدة قامت على ما رآه خلال أدائه لفريضة الحج من تسامح ومساواة، وصورة الاسلام الصحيحة، والتي نقل له بعضها الملك الانسان الداعي إلى ربه بالموعظة الحسنة.
هالني – والعالم – مقطع الفيديو الذي صدم العالم مؤخراً، والذي وثّق بالصوت والصورة حادثة الأمريكي “جورج فلويد”، الممدد على وجهه في الأرض، وركبة الشرطي الأمريكي “الأبيض”، تكتم أنفاسه، وهو يصرخ: “أرجوك دعني.. لا استطيع التنفس”.. وتذكرت وأنا أقرب إلى البكاء.. كيف أن الاسلام جاء لينتشل “بلال” الممدد على الأرض من تحت حجر وضعه على صدره عنصري، ليكتم أنفاسه وصوته الذي يصدح بالحق.. وحمله الاسلام، ليرتق على سطح الكعبة، وتحته خير ولد آدم – عليه الصلاة والسلام – وصفوة العرب من الصحابة.. قارن بين عظمة هذا الموقف.. وموقف “جورج” في أمريكا.. “الدولة المتقدمة”.. التي ما فتأت تبيع على العالم بضاعتها من “تقارير حقوق الانسان”.. التي رُدّت إليها اليوم – وقبل اليوم عند من ليس بالخِب ولا الخِب يخدعه! – لتعلم بأننا نتقدم عليها انسانيا بأكثر من 1400 عام.. لا بتقارير “حقوق الانسان” التي يكتبها البشر.. بل بأعظم “تقرير” صيغ في السماء حول “حقوق الانسان”، ويتكون من بند واحد فقط:
“أنّه من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”.
ختاماً، هذه السطور ليست فوقية مني تجاه أمريكا أو تلك الدول غير الاسلامية.. فعندنا عللنا من “عنصرية وطائفية”، ونهج “أنا ابن الأكرمين” الذي لم يغادرنا بعد.. ولكن ما ذنب الاسلام فيمن ضلّ عن طريقه ؟!
اللهم رُدنا جميعاً إلى الحق رداً جميلا.