دور الجيوش ودروس أميركا والصين ولبنان* رفيق خوري

النشرة الدولية –

كان الشاعر الأميركي الكبير عزرا باوند المتهم بالجنون وتأييد الفاشية، والنازية، يصف بلاده بأنها “مصحة مجانين”.

لكن الرئيس دونالد ترمب يحاول جعلها كذلك بالفعل، حتى قبل رعبه من الاحتجاجات الشعبية و”القوة السوداء” وخوفه بجنون من فقدان الرئاسة.

وأحدث محاولة فاشلة له قادت إلى رد حازم في فصل مميز من مسلسل طويل في تاريخ العالم عنوانه الجيوش والحكام والاحتجاجات الشعبية.

ما طلبه هو استخدام الجيش في المدن الأميركية لقمع الاحتجاجات الشعبية ضد العنصرية و”تفوق العرق الأبيض” كجريمة مستمرة كان جورج فلويد آخر ضحاياها، وما أراده هو تنفيذ “قانون التمرد” الصادر عام 1807 الذي يسمح بإنزال الجيش لقمع العصيان.

وما اصطدم به هو رفض منظومة الأمن القومي، وبالتالي فرض التراجع على وزير الدفاع مارك اسبر، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميللي اللذين اعتبرا المدن “ميدان قتال” وقررا نقل 1,600 عسكري إلى قرب واشنطن، استعداداً لحماية البيت الأبيض. فلا مجال لأن يحدث في أميركا ما حدث ويحدث في الصين وبلدان عدة.

في 4-6-1989، أمر دينغ شياو بينغ الجيش بسحق المحتجين المطالبين بالديمقراطية في ساحة تيان آن مين اي “بوابة السماء”.

كان منطقه أن ” 200 قتيل قد يجلبون 20 سنة من السلام”. ومقابل كل الإدانات في العالم، راح المقاول دونالد ترمب يبررها، ويدافع عنها ويقول في مجلة “بلاي بوك” إنه مع قمع الاحتجاج ونموذج “سلطة القوة”.

وترمب لم يتغير. لكن ما كان يقوله الجنرالات في السر قالوه هذه المرة علناً. وزير الدفاع المستقيل الجنرال جيمس ماتيس قال” ترمب أول رئيس لم يحاول أن يوحد الشعب الأميركي ولا تظاهر بأنه حاول”.

ورئيسا الأركان المشتركة السابقان مايك مولن، ومارتن ديمبسي، وجنرال المارينز جون آلن، والجنرال دوغلاس لوت، وسواهم كتبوا في “فورين بوليسي”، و”اتلانتيك” ما خلاصته أن المدن ليست “ميدان قتال”، والقوات المسلحة لحماية الدستور والبلاد، لا للتدخل في صراعات داخلية. لا بل إن بين الجنرالات العاملين من قال صراحة” إن 40 في المئة من عديد القوات المسلحة هم من السود، وإن إنزال الجيش ضد الاحتجاجات لعبة خطرة قد تقسم الجيش”.

والسؤال هو: هل للدرس الأميركي مكان في العالم الثالث، وحتى في الصين، وروسيا، وبعض أوروبا؟ الجواب هو أن الجيوش هنا لا تزال مع استثناءات، أدوات في يد الحاكم لدعم سياسته ضد خصومه.

ففي ثورات ما سُمي “الربيع العربي” تدخلت الجيوش لقمع الثورات في أمكنة، ووقفت على الحياد في أمكنة. ولولا انضمام الجيش السوداني إلى الثورة الشعبية لبقي عمر البشير في السلطة.

ولولا الدور الوطني للجيش المصري لتمكن الإخوان المسلمون من “أسلمة الدولة والمجتمع”.

والتجارب في لبنان معبرة. خلال أحداث 1958 الدامية، رفض قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب طلب رئيس الجمهورية التدخل ضد الثوار، خوفاً من انقسام الجيش الذي هو على صورة المجتمع اللبناني التعددي.

وفي حرب 1975 فرط الجيش لأنه لم يتدخل في البداية لوضع حد للعنف والقتال، ومن ثم انقسم من جديد بعد إعادة تنظيمه لأنه حاول التدخل. واليوم يلعب الجيش اللبناني دوراً كبيراً في منع الشغب، والتعدي على الأملاك العامة والخاصة، وحماية الاحتجاجات السلمية وحرية التعبير.

كذلك في الفصل بين المتنازعين بالسلاح على مسائل شخصية، وبالطبع الفصل بين المحتجين على سياسات السلطة، والمحتجين على رفع هؤلاء شعارات ضد قادتهم.

الواقع أن الجيش اللبناني متعب، ويعمل فوق طاقته، وليس من المعقول أن يستمر هذا الوضع في ظل التناقض بين أمرين “أولهما خصخصة الدفاع عن لبنان، بحيث تتولى ميليشيا أيديولوجية مذهبية مرتبطة بمشروع إقليمي مهمة حماية لبنان من العدو الإسرائيلي، من دون التنكر لدور الجيش، وثانيهما إرهاق الجيش بالمهام الأمنية في شوارع المدن والقرى، بدلاً من التركيز على قوى الأمن الداخلي، وترك الدفاع عن لبنان للجيش. لكن اللا معقول بات معقولاً بقوة العجز عن تغيير المعادلة”.

وفي أميركا ولبنان: الجيش هو المؤسسة التي تحوز ثقة الناس، خلافاً لمؤسسات عدة، والدرس المهم هو حفاظ القوات المسلحة على الدور الوطني فوق السياسة.

نقلاً عن “اندبندنت عربية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى