تشكيليون عصاميون يدحضون فكرة نخبوية الفن* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
من أهم مظاهر التحوّل في صلب الساحة الفنية اللبنانية، بعد ثورة 17 أكتوبر 2019، تبلور مبادرات فردية شديدة الأهمية أبطالها فنانون تشكيليون يختلفون في الأسلوب والرؤية الفنية ويجمع بينهم حلم بإعادة اختراع ساحة فنية أكثر شعبوية وتفاعلية، لا تحكمها سلطة المال والتجاذبات بين مختلف صالات العرض الفنية المُكرّسة. نقصد هنا بالتحديد التجربة الفنية التي حملت اسم “النوم مع العدو”.
ليست هذه السنة هي الأولى التي قامت فيها مجموعة من الفنانين التشكيليين بإطلاق المبادرة بل هي الثالثة، وحملت هذه السنة بعدا وأهمية أكبر من السنوات الفائتة لعدة أسباب. أهمها أنها مبادرة منسجمة بشكل كامل ومنذ دورتها الأولى مع الانتفاضة اللبنانية ومُسبباتها حتى قبل انطلاقتها.
مبادرة أُطلقت من منطق مُحرك ومؤسّس لها تكوّن بعناية وخرج مباشرة من أرض الواقع اللبناني الاجتماعي، السياسي/ الاقتصادي والثقافي كحاضن للتجاذبات بين كل المجالات الحياتية.
ومن أهم ما يعني هذه المبادرة الفنية هو إبعاد الفن عن النخبوية وإيصاله إلى كافة فئات المجتمع، وبشكل خاص إلى فئة الدخل المحدود غير القادرة على شراء لوحات فنية بأثمان باهظة من صالات العرض المعروفة.
رأى البعض في تخفيض أسعار الأعمال الفنية التي تبناها الفنانون كسرا لمعايير سعر اللوحات بشكل عام، ولاسيما تلك التي تضعها الغاليريهات، حتى أن تعبير “هذا فنان بعشرة آلاف دولار”، أو أي مبلغ آخر، بات تعبيرا رائجا في الوسط الفني/ التجاري. لكن هذا الانزعاج لم ير فيه أصحاب المبادرة الفنية أيّ أهمية تُذكر بل على العكس. فقد نشأت هذه المبادرة نتيجة مرارة وتململ من الاهتراء السياسي والثقافي في البلد ومن طغيان نظامي المصارف والرأسمالية اللذين يتمظهران بشكل مباشر حينا وبشكل غير مباشر حينا آخر من خلال احتكار الصالات الفنية، والفن بقدر ما تعتريه الشروط الفنية والمادية يكون ليس في صالح صاحب العمل الفني.
ولا أحد يجهل أن العديد من الغاليريهات يهمها فقط استيفاء أجر صالة العرض من الفنان أو أخذ نسبة عالية جدا من مبيعات العمل الفني، مع عدم بذل أي جهد إعلامي للترويج لمعرض فنان أو آخر. إضافة إلى ذلك أتاحت هذه المبادرة وكما يدل اسمها “النوم مع العدو” المشاركة والتحاور وتبادل الخبرات بين فنانين يُفترض أن يحكم علاقتهم ببعضهم بعضا منطق التنافس الشرس.
أطلق هذه المبادرة المُسماة بـ”النوم مع العدو” ثلاثة فنانين تجمعهم العصامية، لقنوا نفسهم بنفسهم أصول الفن قبل وخلال انخراطهم في العمل الفني. هؤلاء الثلاثة هم: سمعان خوام وفادي الشمعة وسارة الشعار.
وسمعان خوام هو فنان متعدد المواهب، فإلى جانب كونه مارس التمثيل، هو شاعر ونحات ورسام غرافيتي وفنان تشكيلي أقام معارض فردية وشارك في ورشات عمل داخل لبنان وخارجه كما في دبي وأبوظبي ومدينتي جنيف ولندن، وقد شارك في معارض مختلفة للفنون التشكيلية والتصميم الغرافيكي عبّر من خلالها عن آرائه المتعلقة بالحرب والسلم والبيئة والاضطهاد وحرية الرأي وما إلى ذلك من أفكار يعيش فصولها العالم العربي المعاصر.
أما الفنان فادي الشمعة فهو من مواليد بيروت سنة 1960 ويتلاقى مع الفنان سمعان خوام في كونه فنانا تعتمل في نفسه أسئلة وجودية ومواقف تجاه الهوية وغيرها من المسائل التي تمسّ الإنسان العربي بشكل خاص. غير أنه قادم من عالم التصوير الفوتوغرافي الذي عشقه منذ كان مراهقا، حيث كان يمضي معظم أوقاته في غرفة التظهير السوداء كي يشتغل على معالجة صوره الفوتوغرافية كيميائيا وبالضوء لتعطي الأجواء التي يريدها لها.
في حين ساهمت الفنانة سارة الشعار في تكوين فكرة هذا المشغل الفني، وهي من مواليد مدينة فلوريدا الأميركية، وتدور أعمالها بشكل أساسي حول الوجود والأزمات السياسية والاجتماعية في منطقة شرق الأوسط من خلال نظرة أنثوية لافتة. شاركت في العديد من المعارض وكان معرضها الفردي الأول في كندا ثم في بيروت في صالة “آرت أون 56 ستريت”.
هذه السنة، ارتفع عدد الفنانين المشاركين إلى تسعة، فأغنوا التجربة الفنية والمعرض الناتج عن الورشة بأساليبهم الفنية المختلفة إن في المضمون أو في الأسلوب. كما تغيّر مكان الحدث، الذي دام ثلاثة أسابيع خلال سنتين على التوالي، من صالة عرض صديقة للفنانين واسمها “غاليري كاف” إلى شقة في منطقة مار مخايل مكوّنة من غرفتين وحديقة صغيرة محيطة بها.
الفنانون المشاركون هذه السنة هم: آني كوركجيان، آية كازون، بترام شلش، غيلان الصفدي، سمعان خوام، شوقي يوسف، فادي الشمعة، لوما رباح ومنصور الهبر. ورافق الفنانين المنسقان لين مدلّل وزلفا حلبي. وكلهم فنانون لبنانيون وسوريون.
الشرط الوحيد للمشاركة في هذا الحدث كان أن تقتصر الأعمال الفنية على الرسم على الورق بأحجام صغيرة مُحددة. ويبقى لكل فنان أسلوبه الخاص وموقفه الأخص من كل شأن أراد التعبير عنه من خلال رسوماته.
هذه السنة حمل حدث “النوم مع العدو” عنوانا فرعيا “ممنوع التهذيب”، وهو مستوحى من الثورة اللبنانية على خلفية عمليات القمع التي طالت الثوار وصولا إلى أدنى تفاصيل الاعتراض من قبيل منع الألفاظ المشينة التي وجهها الشعب إلى الطبقة الحاكمة.
وضّح الفنان اللبناني فادي الشمعة أسباب اختيار اسم التجربة وعنوانها الفرعي. في دورتها الثالثة بهذه الكلمات “النوم مع العدو، لأن لكل منا عالمه الخاص الذي سيدافع عنه، لكننا نجتمع في نفس المكان على الأشياء المشتركة ونضع خلافاتنا الأيديولوجية جانبا، أما شعار اللاتهذيب، فلأن الفن هو الذي يكسر التهذيب ومع الثورة لم نعد نريد أن نضع حدودا، وصرنا نريد أن نقول الأشياء التي لم نجرؤ على قولها سابقا”.
والجدير بالذكر أن هذا المشغل الفني المفتوح انطلق هذه السنة في جو مناسب جدا، إذ توافق مع “فلسفته”، إذا صح التعبير. فهو مشغل انطلق أولا في أوج الثورة اللبنانية تزامنا مع إقفال صالات العرض الفنية وتحوّل غاية العمل الفني الذي أنتجه الفنانون في لبنان إلى عفوية وبسرعة أكبر، واجدا مكانه المناسب في الساحات وعلى جدران الأزقة بدلا عن جدران الصالات الأنيقة.
أما الحدث الثاني الذي جاء قبيل افتتاح المشغل، والذي على الأغلب أوقد نار غضب الفنانين المشاركين وغير المشاركين في المشغل مُحدثا جلبة سلبية هائلة على شبكات التواصل هو حفل إطلاق باذخ لـ”كتاب الثورة الفني” الباهظ الثمن في عزّ ثورة مُحقة على الجوع وعلى الرأسمالية والفساد المستشري، وفي أوج ثورة لا تزال في رحم التكوين وليس من قادة معلومين لها إلّا الشارع.
كتاب هو إضافة لهشاشة مضمونه وغياب النصوص المرتقية إلى بريق عنوانه “القادة الصامتون” في الإشارة إلى الثورة اللبنانية، ضمّ أعمالا لمئتي فنان لا أحد يعلم تماما في أي سياق تم اختيارهم واعتبارهم “القادة” الفنيون للثورة.
هذه السنة، ارتفع عدد الفنانين المشاركين إلى تسعة، فأغنوا التجربة الفنية والمعرض الناتج عن الورشة بأساليبهم الفنية المختلفة إن في المضمون أو في الأسلوب
والأدهى من ذلك أن معظم الفنانين المُشاركين في الكتاب دون علمهم المُسبق لم تتم دعوتهم إلى ليلة الافتتاح. واعتبرت الغالبية الساحقة من الفنانين اللبنانيين أن الفنانين الذين ظهرت أعمالهم في الكتاب تم استغلالهم لأجل كسب مادي كبير قيل، ومن دون أي وضوح مُفترض أن يكون بديهيا، أنه يكسب عائد ريعه إلى جهة أو جهات مُحددة.
أما مُطلقة الكتاب في سرعة قياسية لم يشهدها أي كتاب فني جدي من قبل لا داخل ولا خارج لبنان، فهي ماري جو ابنة أكبر مطبعة في لبنان وهي غير ضليعة في شؤون الفن. ومع ذلك لم تتوان في الدفع بهكذا كتاب إلى العلن. كتاب هو بمثابة صفقة أخرى من الصفقات التي اعتاد اللبنانيون قيامها على ظهر أصحاب الحق.