من سيحكم ليبيا؟
بقلم: عبد العزيز الوصلي
النشرة الدولية –
ثروات ليبيا وموقعها الجغرافي وما يحدث بها من فراغ سياسي كبير منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي في أكتوبر/تشرين الأول 2011، جعل منها مسرحاً لمختلف أنواع الصراع للطامعين الإقليميين والدوليين، الأمر الذي يفسره وبشكل جلي، التوازن في القوى بين الأطراف المتصارعة على الأرض، ما ساهم في إطالة عمر الأزمة لتكمل عقدها الأول دون حسم عسكري يقال إنه مرفوض من جميع الأطراف الدولية في العلن، وحل سياسي يُفترض أنه مدعوم من جميع الأطراف ذاتها، الأمر الذي عكسته وبشكل كبيرٍ معركة طرابلس الأخيرة، حيث لا حسم عسكرياً لحساب طرف على آخر، ولا حل سياسياً يجمع الطرفين في مواجهة مباشرة لأكثر من عام.
عاصفة السلام.. بداية التحول الكبير
كانت صبيحة السادس والعشرين من مارس/آذار علامة فارقة بتاريخ الصراع الليبي في نهاية عقده الأول، حين أعلنت حكومة الوفاق الوطني في طرابلس ما سمَّته بـ”عاصفة السلام” إيذاناً ببدء المرحلة الثانية من حربها ضد قوات الجنرال خليفة حفتر المدعوم من مجلس النواب المنعقد في طبرق شرقاً، بعد حصارٍ تجاوز أربعة عشر شهراً، بهدف السيطرة على عاصمة البلاد.
عاصفة السلام يمكن اعتبارها البداية الفعلية للدعم العسكري التركي المقدم لحكومة السراج بموجب اتفاقية أُبرمت بين الطرفين في إسطنبول في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، العملية حققت نجاحاً باهراً، وفي زمن قياسي أبعدت القوات المهاجِمة مسافة 500 كيلومتر عن قلب طرابلس الذي كان في مرمى نيران المهاجمين لأكثر من عام كامل.
العملية بدأت بإسقاط سلسلة مدن الساحل الغربي حتى رأس جدير، لتتحول قوات الوفاق من الدفاع عن مدينتي الزاوية وزوارة غرب طرابلس، ومعبر رأس جدير على الحدود مع تونس، إلى حصار قاعدة الوطية الجوية جنوب طرابلس ومهاجمتها حتى سقوطها، ومنها إلى ترهونة (90 كيلومتراً جنوب طرابلس) أكبر تمركز لقوات حفتر منذ بدء هجومه على العاصمة الليبية في الرابع من أبريل/نيسان 2019، حتى تحوَّل المدافعون بالأمس القريب إلى مهاجمين يحاصرون ما تبقى من القوات المنسحبة في سرت. انتصارات قوات الوفاق السريعة والمتتالية بفضل الحليف التركي، شكَّلت تحولاً مفصلياً في الصراع الليبي المسلح وبدأت انعكاساتها على واقع العملية السياسية ومواقف الدول المنخرطة في هذا الصراع وإن اختلفت الأدوات وتفاوت حجم التدخل بحسب الموقع الجغرافي وحجم المصالح في البلد الممزق.
الصِّدام الروسي الأمريكي
في خضم هذه التحولات العسكرية المفاجئة ظهر للمتابعين ما يمكن اعتباره تفسيرات للتحول في الموقف الأمريكي وإعطاء أنقرة الضوء الأخضر لصناعة واقع جديد بعد عام من ضبابية المواقف تجاه الحسم العسكري، ليظهر انزعاج واشنطن واضحاً من حجم التدخل الروسي في ليبيا، لتتوالى الموقف تباعاً أمريكياً وأوروبياً ممثلة في حلف الناتو والأفريكوم، بكشف مزيد من الأدلة الملموسة على التورط الروسي بعد عام من الإنكار والتضليل الذي انتهجته موسكو؛ في محاولة منها لتجميد الصراع كما يرى الكاتب الأمريكي جيمس كويلي في مقالة نشرها موقع ذا هيل بعنوان (تسعى روسيا لتجميد الصراع في ليبيا)، موضحاً فيه أن ما لم تذكره روسيا كان الدعم الذي تلقاه حفتر من الكرملين نفسه، وأن مقاتلي حفتر الأساسيين ليسوا ليبيين، بل مرتزقة روس من مجموعة فاغنر.
وعلى الرغم من الأدلة الدامغة على تورط روسيا بحسب الموقع الأمريكي، تحافظ موسكو على علاقات جيدة مع حكومة الوفاق الوطني، ما يُبقيها مجرد متفرج مهتم بدلاً من مشارك نشط في الصراع، وهو التكتيك عينه الذي تستخدمه روسيا في أذربيجان وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا.
حملة إعلامية قادتها كبريات الصحف الأمريكية والأوربية، محاوِلةً الكشف عن مدى التدخل الروسي في ليبيا ومطامع موسكو في الظفر بقاعدة عسكرية تشكل تهديداً حقيقاً لمصالح الغرب في ليبيا، عززته الأدلة المنشورة بعد بدء التحقيقات مع الجاسوسين الروسيين المعتقلين في طرابلس “مكسيم شوغالي” و”سامر سعيفان”، بحسب تسريبات نشرتها نيويورك تايمز منتصف أبريل/نيسان الماضي.
تركيا .. فن إدارة المتناقضات
ويبقى اللافت هنا الدور المحوري الذي تقوم به أنقرة وباقتدار كبير على الساحة الليبية، فتظهر حيناً بمظهر الحليف القوي المناصر لحكومة الوفاق والمنفذ للسياسة الأمريكية الجديدة للتصدي للخطر الروسي، وتظهر في أحيان أخرى وسيطاً دولياً بين موسكو وواشنطن في دور شبيه بما فعلته بسوريا، وهذا ما يعكسه بشكل جليٍّ التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أكد عزمه الاجتماع بنظيره الروسي والمضي في العملية السياسية، في الوقت الذي أكد فيه عزم أنقرة مواصلة دعمها العسكري لحكومة الوفاق إلى حين السيطرة على سرت والجفرة، خطوط دفاع حفتر المحصنة بالوجود الروسي العلني هذه المرة.
الثناء الأمريكي المستمر على الدور الذي تقوم به تركيا في ليبيا والتغيير الكبير الذي أحدثته في المعادلة يثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن تركيا استطاعت تحجيم كل الأدوار الأخرى للدول الإقليمية، وضمن ذلك فرنسا وإيطاليا وأخيراً الجارة مصر، التي تحاول العودة إلى السباق الدولي إلى طرابلس عبر دبلوماسية مترنحة أثبتتها مبادرة القاهرة التي وُلدت ميتةً بعد مغامرة إماراتية سعودية غير محسوبة أضعفت الدور المصري وقلَّصته حتى كاد يتلاشى إلا في حال غيرت الجارة سياستها وراهنت على مصالحها الاقتصادية والأمنية مع الطرف المرجح بأنه المنتصر حتى هذه اللحظة “حكومة السراج”.
المعركة الفاصلة
في الوقت الذي يتحدث فيه المراقبون عن إمكانية نقل المعركة عسكرياً إلى الشرق الليبي، تبقى في وجهة نظري معركة سرت بمثابة معركة فاصلة بين الطرفين على المستوى العسكري المباشر، لأن سرت بموقعها الاستراتيجي تمثل خط الدفاع المتقدم لمناطق إجدابيا والهلال النفطي وصولاً إلى حقول النفط في الجنوب الشرقي الواقعة تحت سيطرة قوات حفتر، وهذا ما يعكسه حجم الاستماتة في الدفاع عن سرت، حيث ذكرت رويترز أن روسيا كثفت من عمليات نقل المرتزقة السوريين إلى الشرق الليبي خلال مايو/أيار الجاري، وحجم الإصرار كذلك على دخولها من قِبل قوات الوفاق التي تسبب سوء التنسيق بينها قبل أيام، في كارثة عسكرية راح ضحيتها قرابة 50 قتيلاً بين أفرادها وهو ما أجَّل محاولة الاقتحام بغرض إعادة ترتيب الصفوف، مما ينذر بمعركة كبرى سيكون فيها للطيران المسيَّر التركي الدور الأكبر، في حين تبقى معركة الجفرة “القاعدة الجوية وسط الصحراء” تحصيل حاصل، لأن أهميتها تمثلت في كونها نقطة تجميع وانطلاق لقوات حفتر لمهاجمة الغرب الليبي وتمثيلها بداية خط الإمداد البري الذي فقد أهميته كلياً بعد انتهاء أي تهديد بري للعاصمة طرابلس في مقبل الأيام.
الخلاصة
استمرار العمليات العسكرية هو في واقع الأمر استمرار تغيير واقع المفاوضات السياسية، ومحاولة تعزيز كل طرف من مكانته في الجولة السياسية المقبلة، فحكومة الوفاق باسترجاعها سرت ومحاولة التقدم إلى مناطق الهلال النفطي تحاول ومن منطلق أنها الطرف المنتصر فرض واقع جديد سياسياً، وإنهاء مشروع الداعمين في الشرق بشكله التوسعي على الأقل، في المقابل يبقى هدف الصمود في سرت وإطالة أمد الصراع العسكري وربما تجميده للحفاظ على هامش أوسع للتفاوض من قِبل معسكر الشرق وداعميه وفق سياسة الدب الروسي لانتزاع الحد الأدنى من المكاسب، الأمر الذي ربما يضمنه الوسيط التركي للروس ضمن دوره في إدارة التناقضات وتجنب الحلول العسكرية المباشرة بالذات في المناطق الأكثر حساسية في الشرق الليبي شمالاً وجنوباً “منابع إنتاج النفط”؛ لذا فإن الحديث عن ضرورة الحل السياسي لا يتناقض مع الدعم العسكري الكبير لحكومة الوفاق في نظر الداعمين لها إذا ما نجح في إخراج الروس من المعادلة وفرض واقع سياسي توافقي ربما يتبدل فيه بعض اللاعبين المحليين، لا سيما في الشرق الليبي إذا ما حاولنا تفسير الإشارات التي تطلقها سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في ليبيا منذ أيام؛ تشجيعاً لأصوات سياسية جديدة يمكن أن تتعالى في شرق البلاد.
صحفي ليبي
نقلاً عن “عربي بوست”