تغيّر الظروف في ليبيا يتطلب انخراطا أميركيا أكثر فاعلية* بين فيشمان
النشرة الدولية –
في الثامن من يونيو، أجرى الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتصالا هاتفيا مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لمناقشة الوضع في ليبيا، حيث اتخذت الحرب الأهلية منعطفا حادا لكنها لا تزال بعيدة عن نهايتها.
فخلال الأيام القليلة الماضية، تم أخيرا رد الهجوم الذي دام 14 شهرا بقيادة “الجيش الوطني الليبي” برئاسة اللواء خليفة حفتر ـ حيث استردت قوات متحالفة مع “حكومة الوفاق الوطني” المعترف بها من قبل الأمم المتحدة السيطرة على طرابلس بكاملها، واجتاحت أيضا معاقل “الجيش الوطني الليبي” في بني وليد وترهونة بمقاومة أقل بكثير مما كان متوقعا. بيد، تم إيقاف هذا التقدّم على الأقل مؤقتا في سرت بعد أن وسّعت “حكومة الوفاق الوطني” مراكزها لتتخطى منطقة التفوق الجوي التي أنشأتها سابقا بمساعدة تركيا.
إلا أن “الجيش الوطني الليبي” لم يُهزم بعد في المعارك. فلا تزال إحدى الجهات الأساسية الراعية له ـ روسيا ـ تحافظ على وجود كبير في الجنوب، يشمل ما لا يقل عن أربع عشرة طائرة مقاتلة متقدمة في الجفرة، وفي جميع الاحتمالات، تنشر على الأرجح مئات الجنود من شركة “فاغنر” العسكرية الخاصة.
وتتوقف إمكانية اتخاذ حفتر موقفا دفاعيا في سرت أو الجفرة على مدى استمرار روسيا وداعم رئيسي آخر، هو الإمارات العربية المتحدة، بتزويده بالدعم العسكري ـ حتى عندما تحاول الراعية الثالثة، مصر، وضع ختم بصمتها على الدبلوماسية في ليبيا.
حفتر في تراجع
في 6 يونيو، دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اللواء حفتر إلى القاهرة إلى جانب عقيلة صالح الذي كان خصما له في وقت ما ويشغل حاليا منصب رئيس “مجلس النواب” في شرق ليبيا الذي لا يزال اسميا جزءا من المؤسسات المعترف بها في إطار “الاتفاق السياسي الليبي” لعام 2015. وهناك كشف السيسي عن “إعلان القاهرة” الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار ووضع خطة انتقالية سياسية معقدة.
وتفصّل الخطة المتعددة الأجزاء اقتراحا قدمه صالح في أبريل يقضي بإجراء انتخابات “المجلس الرئاسي” (الهيئة الحاكمة المشرفة على “حكومة الوفاق الوطني”) على أساس المناطق التاريخية في ليبيا ـ الشرق والغرب والجنوب.
تُعتبر حكومة موحدة ومستقرة وشرعية أفضل حليف لرفض وجود الجيوش الأجنبية على الأراضي الليبية
وعندما تمّ طرح مبادرة صالح للمرة الأولى، أشاد بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف واعتبرتها الأمم المتحدة جديرة بالمناقشة، مما كسبته مكانا على المنصة هذا الأسبوع إلى جانب السيسي وحفتر.
وبالنسبة لحفتر، يُعتبر “إعلان القاهرة” هزيمة سياسية تُضاعف من خسائره العسكرية. فقبل بضعة أسابيع فقط، كان يندّد علنا بالاتفاق الذي أفضى إلى إنشاء “حكومة الوفاق الوطني” قبل خمس سنوات. لكن السيسي أرغمه الآن على الاعتراف بـ “حكومة الوفاق الوطني” ودعم الحوار الوطني الذي أعاقت حملته التي دامت لأشهر ضد طرابلس قيام هذا الحوار.
وأفادت بعض وسائل الإعلام المصرية بأن حفتر مُحتجز في القاهرة إلى أن يحل محله زعيم شرقي بديل. وقد تعتمد قدرة حفتر على الصمود الآن على نظرة الإمارات إليه بعد الهزائم الأخيرة التي مني بها في أرض المعركة.
على أي حال، رفض رئيس وزراء “حكومة الوفاق” فايز السراج وقف إطلاق النار المقترح من قبل مصر، في حين أشار وزير الداخلية فتحي باشاغا إلى أن قوات “حكومة الوفاق” ستوقف هجماتها بعد أن استولت على سرت، ومنشآتها النفطية المجاورة، والجفرة، وعندئذ فقط ستتفاوض مع “الجيش الوطني الليبي”. وتعكس هذه التصريحات التوازن الصعب لتحالف “حكومة الوفاق” بين الضغوط الداخلية لمواصلة التقدم والضغوط الدولية لوقف القتال.
الجهات الفاعلة الأجنبية
أثبتت تركيا نفسها كالجهة العسكرية الفاعلة الرئيسية في ليبيا بعد أن ساعدت “حكومة الوفاق الوطني” على إلحاق الهزيمة بالقوات المشتركة لـ “الجيش الوطني الليبي” ومئات المتعاقدين العسكريين من شركة “فاغنر” الروسية، والطائرات بدون طيار وأنظمة الدفاع الجوي الإماراتية. ويبقى حجم الاستثمارات العسكرية الإضافية التي ستقوم بها أنقرة في طرابلس رهنا بالمراحل التالية من الحرب. وهناك خطر من الانجرار إلى صراع مكلف إذا اختارت روسيا الدفاع عن مراكزها.
ومع ذلك، من المرجح أن يتطلع إردوغان والرئيس فلاديمير بوتين إلى تكرار تاريخهما الحافل بالتكيف التكتيكي كما تبيّن في كل من سوريا وليبيا، وآخرها انسحاب قوات “فاغنر” من طرابلس دون عوائق.
أما فيما يتعلق باحتمالات التوصل إلى ترتيب تركي ـ روسي أكثر استراتيجية مماثل لـ “عملية أستانا” السورية، فإن أي جهد من هذا القبيل سيواجه مقاومة من كل من الليبيين (بالنظر إلى دوافعهم المناهضة للاستعمار) والقوى الغربية (التي لها مصالحها الخاصة في الحد من النفوذ التركي والروسي في شمال أفريقيا).
وتتوقف إمكانية اتخاذ حفتر موقفا دفاعيا في سرت أو الجفرة على مدى استمرار روسيا وداعم رئيسي آخر، هو الإمارات العربية المتحدة، بتزويده بالدعم العسكري
وفي هذه المرحلة، يُعتبر السيسي الجهة الفاعلة الأكثر إثارة للاهتمام. فلطالما اعتقد أن “الجيش الوطني الليبي” كان بمثابة الحاجز الغربي لمصر ضد المسلحين المتشددين الليبيين والحكومات المتعاقبة في طرابلس، التي يصفها حفتر والإمارات بصورة خاطئة بأنها إسلامية وجهادية.
ومع ذلك، فمن المفارقات أن دعم السيسي لحفتر جلب قوة إسلامية حقيقية وجيشا حديثا من تركيا برئاسة إردوغان ـ والتي هي عضو في حلف “الناتو” ـ إلى حدود مصر. ويشير الظهور المهين لحفتر في القاهرة إلى أن السيسي فقد أخيرا ثقته به واعتبره غير قادر على حماية الحدود.
ويبقى السؤال الأساسي هو من يمكن أن يحل محل الجنرال برأي السيسي، وإلى أي مدى سيكون هذا الفرد (أو المجموعة) على استعداد للتوصل إلى حل وسط حقيقي مع “حكومة الوفاق الوطني”. ويشير محتوى “إعلان القاهرة” إلى أن السيسي يمكنه على الأقل تحمل انتخابات جديدة في ليبيا، على الرغم من أنه قد يختار عدم الاعتراف بنتيجة يراها غير مواتية.
دور أميركي أكثر ديناميكية
في الأسابيع الأخيرة، قامت إدارة ترامب بنشاط دبلوماسي رفيع المستوى بشأن ليبيا أكثر مما قامت به في الأشهر الثلاثة عشر السابقة. ففي أواخر مايو، وقبل التقدّم الذي أحرزته “حكومة الوفاق الوطني”، ناقش الرئيس ترامب مسألة ليبيا مع كل من إردوغان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، واتفقوا جميعا على ضرورة “تخفيف حدّة التصعيد”.
ثم اتصل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو برئيس الوزراء الليبي سراج للمرة الأولى منذ أكثر من عام، وغرّد قائلا: “وقف إطلاق النار الذي يؤدي إلى حل سياسي هو الخيار الوحيد للشعب الليبي”.
وفي مواكبة الأحداث التي وقعت في 7 يونيو، ثمّن المكتب الصحفي لـ “مجلس الأمن القومي” الأميركي “مبادرة السلام” المصرية كجهد يمكن أن يقود “جميع الأطراف إلى وقف إطلاق النار، وانسحاب القوات الأجنبية من ليبيا، والعودة إلى المفاوضات السياسية بقيادة الأمم المتحدة”. وجاءت المكالمة الثانية للرئيس ترامب حول ليبيا مع إردوغان في اليوم التالي.
من المفارقات أن دعم السيسي لحفتر جلب قوة إسلامية حقيقية وجيشا حديثا من تركيا برئاسة إردوغان
وتتمثل الخطوة التالية في تعزيز واشنطن انخراطها بثلاثة سبل رئيسية: تشجيع تنوّع الأصوات السياسية في الشرق وعدم الاكتفاء بالمشاهدة، وفضح انتهاكات قرار حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، والتواصل مع تركيا وروسيا للمساعدة على إدارة انسحاب قواتهما من ليبيا.
- الانخراط مع القادة في الشرق. تعرّض حفتر لانتكاسة عسكرية وسياسية، ومن غير المرجح أن يتمكن صالح من الوصول إلى مستويات مماثلة من السلطة (إلى جانب التنافس مع شخصيات أخرى في الشرق، لا يزال يخضع لعقوبات أميركية لدوره السابق في زعزعة الاستقرار في ليبيا).
لكن ذلك لا يعني أن على واشنطن الاكتفاء بـ”تتبع [التطورات] باهتمام وسط بحث الأصوات السياسية في شرق ليبيا عن طريقة للتعبير عن نفسها”، كما غردت السفارة الأميركية في السادس من يونيو على موقع “تويتر”.
بدلا من ذلك، يتعين على المسؤولين في الولايات المتحدة والدول الحليفة العمل بشكل منتظم على إشراك القادة المحليين من قطاع السياسة والأعمال والمجتمع المدني في الشرق، تماما كما أشادوا مؤخرا بالحديث الذي أجراه السفير ريتشارد نورلاند مع رئيس بلدية في الغرب. ومن شأن مساعٍ مماثلة أن تشجع مشاركة شرق ليبيا في حوار وطني وتوضح أن الولايات المتحدة لا تؤيد أي شخصية معيّنة.
- فضح انتهاكات حظر الأسلحة. على واشنطن تسليط المزيد من الضوء على التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا، على غرار المثال الذي فرضته “القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا” (“أفريكوم”) من خلال عرض صور التُقطت عبر الأقمار الصناعية لنشر مقاتلات روسية.
ويشمل ذلك تسليط الضوء على العمل الهام الذي يقوم به “فريق خبراء الأمم المتحدة” في تفصيل جميع انتهاكات العقوبات. وحتى لو لم يفعل مجلس الأمن الدولي المنقسم أي شيء ردا على ذلك، على الولايات المتحدة أن تواصل مساعدة فريق الخبراء على فضح الانتهاكات الإضافية وفرض عقوبات من جانب واحد على الكيانات المسيئة (مثل المقاولين العسكريين الخاصين، وتجار الأسلحة، وشركات الشحن).
ومن شأن التركيز على وسائل أخرى لنقل الأسلحة أن يعزز أيضا البعثة البحرية لـ “الاتحاد الأوروبي” في المنطقة، “عملية إيريني”، ذات الموارد الضعيفة. بالإضافة إلى ذلك، يجب على واشنطن دعم تصويتها لصالح قرار مجلس الأمن رقم 2510 ودعمها البلاغي لوقف إطلاق النار من خلال تحديد الكيفية التي ستسهّل بموجبها آلية منسقة من قبل الأمم المتحدة تحقيق هذه الغاية.
- منع إبرام اتفاق روسي ـ تركي. تستفيد موسكو وأنقرة من سعيهما بشكل مشترك إلى إضفاء الطابع الرسمي على مراكزهما في ليبيا. وقد تكسب تركيا دعم روسيا ضد المعارضة الأوروبية لوجودها في طرابلس وترتيبها البحري المثير للجدل مع ليبيا. وقد تعزز روسيا مكانتها في النصف الشرقي من البلاد، وتعزز مصالحها الاقتصادية المحلية، وتوسع قاعدتها العسكرية في المنطقة، وهي الخطوة الأكثر إثارة للقلق. ومع ذلك، لن يحصل مثل هذا التفاهم بشكل طبيعي، لذا أمام المسؤولين الأميركيين فرصة لمنعه.
بالنسبة لحفتر، يُعتبر “إعلان القاهرة” هزيمة سياسية تُضاعف من خسائره العسكرية
وحتى الآن، تجنّبت واشنطن فكرة إجراء حوار مع موسكو بشأن ليبيا، على الرغم من اقتراح لافروف على وزير الخارجية الأميركي بومبيو إجراء حوار، خلال زيارة لافروف إلى واشنطن في ديسمبر.
لقد حان الوقت لعكس مسار تلك السياسة. يتعين على المسؤولين الأميركيين البدء في التحدث مع روسيا وتركيا لتحديد شروط مقبولة للطرفين لإنهاء الحرب، وسحب أصولهما العسكرية المتقدمة، وحث شركائهما في ليبيا على العودة إلى الحوار الوطني برعاية الأمم المتحدة.
يجب إشراك ألمانيا في هذه المحادثات باعتبارها أحد الأصوات المتحدثة باسم المصالح الأوروبية.
وفي غياب مثل هذا الانخراط الأميركي المباشر، سيترسخ الوجود الروسي والتركي بشكل كبير بطريقة تتعارض مع المصالح الأميركية وتضع ليبيا على طريق التقسيم والصراع المستمر.
وفي نهاية المطاف، تُعتبر حكومة موحدة ومستقرة وشرعية أفضل حليف لرفض وجود الجيوش الأجنبية على الأراضي الليبية. إن أفضل السبل لتحقيق هذا الهدف هو إنهاء الحرب ودعم مثل هذه الحكومة.
المصدر: منتدى فكرة