“بين قيصرين”… سوريا على مفترق “الحل” أو “الانهيار”* عريب الرنتاوي

النشرة الدولية –

بلغت الأزمة السورية في عامها العاشر، منعرجا خطيرا، سيُملي حتما إعادة ترتيب أوراق اللاعبين الكبار على ملعبها، وقد يفتح أفقا لحلول وتسويات، عجزت الطائرات والمدافع والصواريخ عن فتحه…

فالانهيار الاقتصادي المصاحب للسقوط المدوي للعملة الوطنية، وتبخر احتياطات الدولة من العملات الأجنبية، واشتداد الضائقة الاجتماعية وتآكل القدرات الشرائية للمواطنين، جميعها عوامل من شأنها أن تعود بالسوريين إلى ربيع العام 2011، وتعيد الاعتبار للشوارع والميادين السورية، التي ستستقبل من جديد حشود المتظاهرين الجياع والمعطلين عن العمل المكتوين بنيران الفساد والإفساد المتفشيين في بنية الدولة السورية.

التاريخ لا يعيد نفسه

ليست سوريا اليوم، هي ذاتها قبل عقد من الزمان… سوريا اليوم فقدت ثلث سكانها بين لاجئ ومهجّر، ومدنها الرئيسة تستعيد صور ومشاهد مدن الحرب العالمية الثانية، اقتصادها مدمر، وبناها التحتية متهالكة… ترابط فوق أرضها جيوش أربع دول كبرى: روسيا والولايات المتحدة، إيران وتركيا، وعشرات المليشيات المسلحة والمدججة بالطائفية والمذهبية وخطاب الكراهية.

سوريا اليوم، مقسّمة واقعيا، بانتظار واحدٍ من خيارين اثنين، لا ثالث لهما: إما الانهيار والفوضى و”شرعنة” التقسيم و”ترسيمه”، بعد الانتقال به من حالة الـ”de facto”، إلى الانفصال الكردي والضم التركي الرسميين، أو الذهاب إلى حل سياسي شامل، يعيد إنتاج سوريا، وهيكلة نظامها السياسي وتقسيماتها الإدارية وسياستها الخارجية وتحالفاتها الإقليمية والدولية… هكذا تبدو الصورة اليوم، أشد حلكة على السوريين المنهكين بأعباء حرب السنوات العشر.

   سيجد النظام السوري نفسه بين فكي “قيصرين”، قيصر الكرملين، بضغوطه ومطالبه التي ستطاول صلاحيات الأسد، أو الأسد نفسه، وقبضة “قانون قيصر” الأميركي

يخضع السوريون اليوم، لسيطرة أربع حكومات: حكومة دمشق، التي تبسط سيادتها على معظم البلاد والعباد… حكومة “جبهة النصرة”، أو ما يسمى “حكومة الإنقاذ”، وتبسط سيطرتها على جزء واسع من الشمال الغربي “إدلب وجوارها”… حكومة الائتلاف المؤقتة التي تمثل الفصائل الموالية رسميا لأنقرة (حكومة “النصرة” موالية واقعيا وليس رسميا بعد لتركيا)… وحكومة الأكراد في الجزيرة وشرقي الفرات، ممثلة بالإدارة الذاتية لقوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من واشنطن والحاضنة لما تبقى من قوات أميركية في سوريا.

ورغم الصراع المحتدم الدائر بين الحكومات الأربع، بما تمثل ومن تمثل، إلا أن الشعب السوري بدأ يظهر ضيقا بها جميعها، وثمة إرهاصات على بوادر انتفاضات متلاحقة ومتعاقبة، ضد هذه الحكومات…

الحكومة المركزية في دمشق، بدأت تواجه غضبا شعبيا عارما بدءا من السويداء ودرعا، والأخيرة، كانت انطلاق الشرارة الأولى للثورة السورية في مارس 2011، فيما حالة الشكوى والتذمر والضيق تشتعل في مختلف مناطق سيطرة هذه الحكومة، بما فيها مناطق الساحل المعروفة باحتضانها للنظام…

وثمة احتجاجات لا تنقطع، ضد حكومة “النصرة”، بالنظر لميل التنظيم الإرهابي إلى تشديد قبضته الأمنية والأيديولوجية، وجنوحه للمبالغة في فرض الضرائب والرسوم، وبالنظر لانعكاسات انهيار الليرة السورية على حياة المواطنين في هذه المنطقة، ما دفع بـ”أبو محمد الجولاني” لإصدار فتوى باستخدام الليرة التركية بدلا عن السورية، في تناغم لا يخفى على أحد مع ميول أنقرة لمد سيطرتها إلى إدلب، وتسريع مسار “تتريك” مناطق عمليات الجيش التركي والمليشيات التابعة له في الشمال السوري.

حكومة الائتلاف المعارض، التي يتذكرها السوريون بين الحين والآخر، تعجز عن ضبط فوضى الجريمة والسلاح، أو ضبط الفلتان الأمني، حيث تفشت جرائم الخوّات والاغتصاب والخطف وغيرها، والسوريون تحت سيطرتها، يكتوون بنيران الأزمة الاقتصادية العامة التي تضرب بلادهم، فضلا عن خضوعهم منذ أزيد من أربع سنوات، لعملية “ضم وإلحاق” تركية منهجية ومنظمة، وبما يشي بأن “تركيا وجدت في هذه المناطق لتبقى”، وكل حديث لها عن احترام وحدة سوريا وسيادتها، ليس سوى ضربا من الخداع، وشراء للوقت لا أكثر ولا أقل.

على المقلب الشرقي للفرات، تستبد حكومة “قسد” وإدارتها الذاتية بحكم المنطقة منفردة، حتى الفصائل الكردية الأخرى، ليس لها مكان في هذه الإدارة، بدلالة الفشل المتكرر لجولات الحوار الكردي ـ الكردي ( قسد والمجلس الوطني)، وإذا كان وجود النفط والمياه والقطن والزراعة في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية قد خفف وسيخفف من انعكاسات الانهيار الاقتصادي العام في سوريا على حياة المواطنين في هذه المنطقة، إلا أن الصراعات العربية ـ الكردية، والكردية ـ الكردية، ووجود “داعش” أو فلولها في الإقليم، لا يجعل حياة السوريين في الجزيرة أفضل بكثير من حال إخوانهم في بقية المناطق.

الثابت والمتغير في مواقع اللاعبين ومواقفهم

من بوابة “قانون قيصر”، وتكتيك “العقوبات القصوى” التي اعتمدته واشنطن وسيجري العمل به رسميا خلال أيام، تجدد الولايات المتحدة حضورها، وتعيد ترتيب شروطها وأولوياتها للحل السياسي في سوريا، مستفيدة من:

(1) الوطأة الغليظة للعقوبات على النظام والشعب السوري سواء بسواء، النظام محروم من موارده الغذائية والمائية والنفطية في شرق الفرات، وتجارته الخارجية معطلة، وحتى المنافذ المفتوحة مع العراق والأردن لم تعمل كما ينبغي وسيصفر فيها الريح قريبا… خزائن النظام فارغة، ومشاريعه لإعادة الإعمار تواجه تحديا غير مسبوق …

(2) حلفاء النظام (روسيا وإيران) في وضع غير مريح، فهم أيضا عرضة لعقوبات سابقة، ومشمولين بعقوبات “قانون قيصر” اللاحقة، وحرب أسعار النفط، ضربتهم في الصميم، وجائحة كورونا أثقلت بتداعياتها المالية والاقتصادية والاجتماعية كاهل اقتصاداتهم ومواردهم، وليس لديهم الكثير لتقديمه لحليف يغرق في بحر من التحديات، بعضها مفروضة عليه، وبعضها من صنع يديه…

   الاستعداد الروسي للحوار الشامل مع الولايات المتحدة، سبقته موجة انتقادات روسية علنية لاذعة لدمشق

(3) مناخات الانفتاح على سوريا والانفراج في علاقاتها مع بعض الدول العربية والأوروبية، والتي كانت موضع رهان لجلب الاستثمارات والرساميل، تصطدم بجدران “قيصر” الأميركي، والمرجح أن تشهد موجة الانفتاح على سوريا، جَزْرا بعد مدّ…

(4) أما لبنان، الذي كان رئة يتنفس منها الاقتصاد السوري، إن عبر مصارفه وتجارته المشروعة، أو عبر قنوات التهريب (وهي الأهم)، لبنان ذاته، يواجه سلسلة لا تتوقف من الانهيارات المالية والنقدية، أزمة لبنان وانهيار عملته الوطنية وتعطل جهازه المصرفي جاءت وبالا على سوريا، وإن كان الاعتماد السوري “الجائر” على الموارد اللبنانية قد ساهم بدوره في تفاقم أزمة لبنان واستطالتها وتعذر الحلول المتاحة لها.

عند هذه النقطة بالذات، يأتي العرض الأميركي على لسان جيمس جيفري: العودة لعملية سياسية وفق مسار أممي (لا سوتشي ولا أستانا)، تغيير جذري في سلوك النظام في سياسته الخارجية، دستور جديد لسوريا، يلحظ “الوقائع على الأرض” ويكفل حقوق المكونات السورية (إشارة للأقلية الكردية)… خلاصة العرض الأميركي: سوريا بلا أسد، أو بأسد بلا أنياب أو مخالب.

وعند النقطة ذاتها، جاء رد سيرغي ريباكوف مؤكدا جاهزية روسيا لحوار شامل مع واشنطن حول سوريا، بما يعني فتح جميع الموضوعات والملفات، دفعة واحدة، وعدم الاكتفاء بحوارات تقنية لتفادي الاشتباك والاحتكاك، أم معالجة تقتصر على هذه المنطقة دون تلك.

الاستعداد الروسي للحوار الشامل مع الولايات المتحدة، سبقته موجة انتقادات روسية علنية لاذعة لدمشق، قبل وبعد اندلاع صراع المافيات المالية، الذي فجرته قضية رامي مخلف، وتطاير التقارير والتقديرات التي تشير إلى استعداد روسي متنامٍ للبحث عن تسوية لا تلحظ دورا للأسد في مستقبل سوريا، وهو أمرٌ لطالما تكرر الحديث عنه، حتى بعد أن ينفي الكرملين الأنباء بشأنه.

والحقيقة أن ما لا يقوله الرسميون الروس في العلن، يفصحون عنه في اللقاءات المغلقة، ووفقا لمصادر روسية تحدثنا معها، لا تبدي موسكو ارتياحا لإدارة النظام السوري ملفات ما بعد الحرب، ولا لجهوده في محاربة الفساد واحتواء أزمة الثقة مع الشارع السوري… لكن سؤال: من يخلف الأسد في حال تقررت التضحية به، يبدو بلا جواب عند موسكو كذلك.

ويخرج المراقب لتطور الموقف الروسي من الأزمة السورية، أن موسكو أكثر ميلا واستعدادا، لاعتماد قناة “اللجنة الدستورية” مدخلا لإعادة تشكيل النظام السوري، فتتقلص الصلاحيات المطلقة للرئيس وتوزع على الحكومة المركزية والحكومات المحلية، وروسيا قبل غيرها، دعمت فكرة “اللامركزية الموسعة” أو حتى “النظام الفيدرالي لسوريا” في مسودة الدستور الذي قدمته للنظام والمعارضة مع بدء عمل مسار أستانا… لا مشكلة لدى روسيا في القبول بأية صيغة لمستقبل سوريا ونظامها، طالما أن تحمي مصالحها وتكفل وجودها طويل الأجل على الأرض وفي الأجواء والمياه السورية الدافئة.

روسيا التي نجحت في تفادي السقوط في المستنقع العسكري السوري حتى الآن، تسعى في تفادي الانزلاق إلى “مستنقع اقتصادي” في سوريا، وهي غير قادرة على حمل “الرجل السوري المريض” على أكتفها المتعبة لفترات طويلة.

ما ينطبق على روسيا اقتصاديا، ينطبق بقدر أكبر على إيران، الحليف الثاني لنظام الأسد، لكن إيران بخلاف روسيا، تواجه حرب استنزاف إسرائيلية ضد قواتها ومليشياتها المنتشرة على الأرض السورية، أو ما تسميه إسرائيل “حرب الظلال”… الشهية الإيرانية للتمدد في سوريا والبقاء فيها تتراجع تدريجيا كلما ارتفعت “فاتورة” هذا البقاء والتمدد، وفي مطلق الأحوال، ليس لدى إيران الكثير لتقدمه لاستنقاذ سوريا من خانقتها الاقتصادية، ففاقد الشيء لا يعطيه، وليس لدى النظام المزيد من “موجودات الدولة” ليضعها في تصرف حلفائها الإيرانيين (أو الروس) نظير هبات ومساعدات تخرجه من قبضة العقوبات و”الجائحة الاقتصادية”.

   ما لم تحققه عشر سنوات من المعارك والحروب المتنقلة، من إنضاج لشروط الحل والتسوية في سوريا، قد تحققه الخانقة الاقتصاد والليرة السورية

وسيجد النظام السوري نفسه ـ ربما قريبا ـ بين فكي “قيصرين”، قيصر الكرملين، بضغوطه ومطالبه التي ستطاول صلاحيات الأسد، أو الأسد نفسه، وقبضة “قانون قيصر” الأميركي، الذي يحكم إغلاق أنابيب الأوكسجين التي يتنفس عبرها، اصطناعيا، اقتصاد سوريا المريض.

أما اللاعب الأكبر الرابع، تركيا، المنتشي بانتصاراته في الغرب الليبي، فهو يكتفي على ما يبدو بإحكام قبضته على الشمال السوري، وهو وإن كان مثخنا بجراحات الركود الاقتصادي وتراجع عملته الوطنية، وضغوط جائحة كورونا، إلا أنه ما زال على استعداد للدخول في لعبة “عض أصابع” مع الشركاء في سوتشي وأستانا، وهو يواصل لعبته المفضلة بالرقص على الحبل المشدود بين الكرملين والبيت الأبيض، وهو قانع بأن الوقت ربما يكون مناسبا لإعادة بعث وإحياء أحلامه “العثمانية” القديمة في الزحف على أراضٍ سورية واقتطاعها، وإلحاقها بمصير لواء الإسكندرون.

والخلاصة أن ما لم تحققه عشر سنوات من المعارك والحروب المتنقلة، من إنضاج لشروط الحل والتسوية في سوريا، قد تحققه الخانقة الاقتصاد والليرة السورية… وما لم يُنتزع من النظام وحليفتيه بقوة الرصاص والصواريخ والمدافع، قد يصبح تحقيقه ممكنا بقوة العقوبات والحصار و”قانون قيصر”.

لكن من أسفٍ، ليس هذا هو السيناريو الوحيد المطروح على مائدة سوريا والسوريين، فالأزمة في عامها العاشر، إن لم ترس على مرفأ الحل السياسي الشامل، فإنها ستفتح الباب رحبا لانهيار سوريا وتقسيمها وتقاسمها، وتعميم الفوضى والاحتراب الأهلي وتفشي الجريمة وعودة العنف والإرهاب وتناسل حروب الوكالة وزيادة أوزان الجماعات الدينية المسلحة، وانطلاق موجات هجرة ولجوء جديدة، بدوافع اقتصادية هذه المرة، بعد موجات الهجرة الأولى بدوافعها الأمنية المعروفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button