بين الإقتصادين اللبناني والسوري: مسارٌ صعب وشحٌّ في العملة الصعبة…* د. سهام رزق الله

النشرة الدولية –

في موازاة معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسوريا، ومجمل الاتفاقات والبروتوكولات التي انبثقت منها في إطار المجلس الأعلى اللبناني – السوري، شهدت الإقتصاديات العربية تجارب عدة، بحثاً عن تحقيق درجات متقدّمة من التكامل الإقتصادي، وأبرز ما توصّلت إليه في هذا الإطار، هو إنشاء منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى، التي يجري العمل على تنفيذها، بموجب البرنامج التنفيذي لاتفاقية تيسير وتنمية النشاط التجاري بين الدول العربية، الذي أقرّه المجلس الإقتصادي والإجتماعي في دورته العادية التاسعة والخمسين في القاهرة في 16 شباط 1997.

وقد بوشر التنفيذ إبتداءً من مطلع العام 1998، على أن يتمّ خفض الرسوم الجمركية على السلع العربية المتبادلة بمعدّل 10% سنوياً، بحيث يتمّ تحرير تبادل السلع العربية كلياً مطلع العام 2007. وإذ شهد لبنان بين عامي 2008 و2010 أعلى درجات نمو إقتصادي، تدحرجت كل المؤشرات الاقتصادية بالتزامن مع اندلاع الأحداث عام 2011 في سوريا ولا تزال…وجديدها ترافق مسار الليرتين اللبنانية والسورية في التدهور، بما يجعل من المفيد إعادة رسم خريطة تطور الاتفاقات والتبادل بين البلدين، في مسار إقتصادي صعب، وصولاً الى شح العملة الصعبة في البلدين.

شهد الاقتصاد اللبناني خلال السنوات 2008-2010 نمواً غير مسبوق، تخطّى 8.5% في نهاية هذه الفترة، وشهد ميزان المدفوعات فائضاً كبيراً: 22.7% من الناتج المحلي الإجمالي…حتى انقلبت الأوضاع بدءاً من العام 2011 على كل المستويات. وفي الفترة 2008-2010 شهد لبنان استثمارات هائلة، خصوصاً في مجال العقارات، وإنفاقاً سياحياً بارزاً، لا سيما من بلدان الخليج. وقد أدّى ذلك إلى تفضيل قطاع التجارة والترفيه على حساب سائر القطاعات ذات الاستثمار الثابت والأكثر متانة وقت الأزمات، مثل الزراعة والصناعة، المتضررة أصلاً بنحو متراكم والمستغيثة منذ اتفاقات التجارة وتحرير التبادل، إن كان ثنائياً بين لبنان وسوريا أو ضمن إتفاقية التيسير العربي الأكثر شمولاً، ضمن منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، التي لم تتمكّن المنتجات اللبنانية من إثبات قدرتها التنافسية في ظلّها.

إلّا أنّ سوريا تبقى البوابة الوحيدة للبنان نحو البلدان العربية، وبالتالي، الشريان الاقتصادي التجاري الحيوي الوحيد له، إن كان للتبادل الاقتصادي التجاري العربي البيني أو للسياحة العربية المشتركة، ما يجعل من الطبيعي أن يرتبط البلدان بتأثير إقتصادي متبادل، على الرغم من الاختلاف الجذري بطبيعة النظام الاقتصادي بين البلدين.

والمعلوم أنّ لبنان يتمتّع وفق الدستور ومجمل القوانين بنظام إقتصادي حر، كان يُفترض أن يهيئه أكثر لحرّية التبادل، لولا صعوبات المنافسة المتّصلة بعوامل عدة، منها: صغر حجم الاقتصاد اللبناني، وبالتالي صعوبة تحقيق ما يُسمّى “إقتصاد الحجم”، الذي يخفف كلفة إنتاج كل وحدة، مع ازدياد عدد الوحدات المنتجة، مما يمنع مَن يُنتج كميات صغيرة من منافسة من يُنتج كميات كبيرة، بفعل اختلاف كلفة الانتاج لكل وحدة. فلبنان يفتقد للمساحات الزراعية الشاسعة الموجودة في سوريا وسائر البلدان العربية، وكلفة إنتاجه مرتفعة في الصناعة، إن بالخدمات أو الرأسمال أو اليد العاملة أو كلفة الطاقة، ما يزيد الفارق وإمكانية المنافسة للمنتجات المماثلة، إن كان مع سوريا أو مع غيرها ..وأكثر من ذلك، لم يتمكن لبنان من تقديم الدعم لقطاعاته، كما تفعل غالبية البلدان العربية ومنها سوريا، علماً أنّ الدعم أساساً يفترض أن يكون ممنوعاً في حال إتفاقات حرّية التبادل التجاري، بغية إعطاء تكافؤ فرص بين المنتجات المتبادلة… هذا طبعاً في الاقتصاد المعلن، بغض النظر عن مشكلات الاقتصاد غير المعلن، المتصل بشكاوى القطاعات من المنتجات المهرّبة عبر الحدود، والتي تزيد من الإغراق في السوق وعدم التكافؤ في الفرص بين المنتجات.

وكما هو معلوم، فإنّ تكاليف الإنتاج في سوريا هي في حدود نصف الكلفة في لبنان. من هنا، انّ ازالة الرسوم الجمركية نهائياً عن عشرات السلع الزراعية السورية عند تصديرها الى لبنان قد اثّر سلباً على قطاعات عدّة. كذلك لم يستطع عدد من السلع من منافسة مثيلاتها المنتجة في سوريا، والتي دخلت الى لبنان بالطرق الشرعية بالكميات المحدّدة لها، من ضمن اتفاقية تبادل المنتجات والسلع الزراعية بين البلدين، وهي السلع التي تتمتع بحرية التبادل بين لبنان وسوريا، ونافست السلع اللبنانية في السوق اللبنانية دون ان يكون بالإمكان تصديرها الى سوريا، فاقتصرت الصادرات الزراعية اللبنانية الى سوريا بنحو أساسي على ثلاث سلع اساسية، هي الحامض والموز والبطاطا.

ومع اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011، انقلبت كل المؤشرات الإقتصادية في لبنان. ومع ترابط العلاقات الاقتصادية والتجارية والقطاعية، كان من الطبيعي أن يؤثر تدهور الأوضاع في سوريا على الاقتصاد اللبناني على مستويات عدة وفي قطاعات مختلفة. وقد أظهرت السنوات الأخيرة، أنّ الأزمة السورية أثرت سلباً على التجارة اللبنانية. فالصادرات إلى سوريا أخذت في التراجع. أولاً، بعد الوضع الاقتصادي والاجتماعي في سوريا، انخفض الاستهلاك والطلب على السلع بنحو ملحوظ، ولذلك انخفضت الواردات من لبنان أيضاً، كما انخفضت الصادرات إلى سوريا، بعد زيادة تكاليف النقل. وأكثر من ذلك، كانت سوريا تعمل في بعض الأحيان كنقطة عبور (ترانزيت) للصادرات اللبنانية نحو سائر البلدان العربية، ما زاد من تأثير الأزمة على الصادرات اللبنانية ككل.

كما أنّ لبنان بلد يعتمد إلى حد كبير على الواردات. وتُظهر الدراسات التي أُجريت في 2018 أنّه بين عامي 2011 و 2014 ، زادت الواردات اللبنانية الى سوريا بنتيجة عاملين: من جهة انخفضت حصّة الواردات من سوريا للبنانيين، ولكن من جهة أخرى زاد أكثر بكثير طلب لبنان لمنتجات من سوريا، مع تزايد أعداد النازحين السوريين على أرضه.

وقد أدّت الزيادة في الواردات، مصحوبة بانخفاض الصادرات، إلى زيادة العجز في الميزان التجاري، ما أثر بعد ذلك على نمو الناتج المحلي الإجمالي. لكن التجارة لم تكن القطاع الوحيد المتأثر بالأزمة السورية، التي أرخت بظلّها على حركة كل القطاعات الاقتصادية في لبنان، وأثرت سلباً طبعاً على المناخ الاستثماري فيه، الذي يتأثر بشدة بوضع الاستقرار في البلاد والمنطقة وحركة السياحة والانفاق.

صحيح انّ للقطاعات مطالب قديمة – جديدة، خصوصًا في مجال التبادل التجاري، واتفاقات تحرير التجارة، وحماية الانتاج المحلي، ومكافحة الاغراق والدفاع عن المنتجات المحلية ازاء المنتوجات المدعومة المستوردة، والعمل على خفض تكاليف الانتاج اللبناني لتحسين قدرته التنافسية، ان كان بغية تمكينها من الصمود في وجه المنافسة غير المتكافئة له في عقر داره من المنتوجات المستوردة، او بغية مساعدته في اختراق الاسواق الخارجية والاستفادة من اتفاقات التبادل التجاري وتفعيل التوجّه نحو اسواق البلدان الأعضاء في هذه الاتفاقات، بدلاً من البقاء في خانة الدفاع عن النفس في السوق الداخلية اللبنانية فقط… الّا انّ الارقام والاحصاءات عن تجارة لبنان الخارجية، خصوصًا بعد “حرب تموز 2006” أثبتت انّ هذه المطالب باتت اشدّ إلحاحًا وضرورة، بالإقرار بالحال الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد واولوية اتخاذ الاجراءات المناسبة لها. مع الاشارة الى أنّ قانون الاغراق، الذي يذكّر به دائمًا اصحاب المؤسسات والمنتجون الصناعيون والزراعيون، صدر عام 1967، ولا يزال تطبيقه مطلباً يومياً…أما اليوم فأوضاع القطاعات الاقتصادية، ولا سيما منها القطاعات الانتاجية، لم تعد تحتمل اي تأخير في تأمين الحد الادنى من مطالبها، لاستمرار الانتاج والصمود ازاء منافسة المنتوجات المستوردة، خصوصًا بعد الظروف الصعبة التي عانتها ولا تزال.

اليوم وقد اشتدّ الاختناق الاقتصادي في كل من لبنان وسوريا وتدهورت أوضاع العملتين، زادت الضغوط في البلدين لجهة قيمة كل من الليرة اللبنانية والليرة السورية، وبالتالي ضاقت إمكانيات البلدين من الاستيراد وتأمين المواد الأولية المستوردة في كل منهما، وتفاقمت صعوبات مختلف القطاعات في البلدين.

وقد كان لافتاً، الرسم البياني في مجلة “ايكونوميست”، الذي أظهر توازي المسار الانحداري للعملتين اللبنانية والسورية في الفترة الأخيرة:

وفيما يشتد الضغط على القطاعات اللبنانية الغارقة في الأزمة اليوم في لبنان، تزداد المطالبة بالتعويض عن شتى أنواع الاضرار، والتي تكمن في ازالة العراقيل التي تعوق التبادل التجاري، ومن ابرزها افتقاد المواصفات والمقاييس الموحّدة، وتفعيل السلطة المركزية لفصل النزاعات بين المصدّر والمستورد، وغياب البرامج المشتركة والتنسيق المطلوب بين القطاعين الخاص والعام، والسياسات الطارئة، كالتدابير الخاصة بشهادة المنشأ في منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى…

مطالب القطاعات الاقتصادية هي مطالب جميع اللبنانيين، الذين مهما تنوعت آراؤهم ومواقفهم في مختلف الملفات السياسية، تجمعهم الهموم والمصالح المعيشية والحياتية اليومية نفسها. ومهما كبر حجم كل القوى الناشطة في لبنان، يبقى الحجم الاكبر للقطاعات التي تحمل مصالح المواطنين جميعًا واولوياتهم الحياتية، خصوصاً في بلد يمثل فيه القطاع الخاص المحرك الرئيس وشبه الوحيد للدورة الاقتصادية ككل، وبالتالي الركيزة الاساسية للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

الوعود لم تعد تنتظر، ومطالب القطاعات باتت حاجة ملحة، وحقوق المواطنين الاقتصادية ينبغي ان تُعطى الاولوية للإبقاء على من تبقّى من اللبنانيين في وطنهم…ومع اشتداد الأزمة اليوم في البلدين بنحو متوازٍ، فقد أصبح أكثر إلحاحاً التشدّد في التطبيق السليم للاتفاقات، وإيجاد الأطر المناسبة للتعامل مع اختلاف تكاليف الانتاج المماثل والمتبادل بين البلدين، مرورًا بمشكلات دعم الانتاج وتهريب المنتجات عبر الحدود المشتركة واغراق السوق اللبنانية، ومشكلات النقل والترانزيت، وغياب المعاملة بالمثل، في عناوين عريضة لدى تطبيق الاتفاقات، وصولاً الى استمرار وجود عراقيل ورسوم ذات اثر مماثل للرسوم الجمركية، ومطالبة القطاعات اللبنانية برسوم تكافؤية وفترات سماح، او تعليق بعض الاتفاقات وتعديل بعضها الآخر…

فهل تلقى مطالب القطاعات الانتاجية هذه المرة إصغاء أفضل، وانتقالاً الى التنفيذ أسرع، طالما بات الجميع يقرّ بأولوية الاهتمام بهذه القطاعات لتأمين الحدّ الأدنى من الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، في ظل صعوبة تأمين العملة الصعبة في البلدين؟…

نقلاً عن صحيفة “الجمهورية” اللبنانية

أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى