كيف انفصلت أسواق الأسهم عن الاقتصاد الحقيقي؟
النشرة الدولية –
هل الأسوأ قد انتهى حقاً أم أن المعاناة مستمرة؟، هذه القضية الشائكة تلوح في أذهان الكثيرون وسط التحركات غير المفهومة من جانب الأسواق وما يقابلها من خسائر حادة في الوظائف الأقل دخلاً وزيادة في أعداد الفقراء.
وفي حين تقدم الأسواق المالية العالمية إجابة مشرقة، يرسم كل من الأفراد والاقتصاد الحقيقي صورة تمثل النقيض التام، وكأن كل منهما يعيش في مدينة منفصلة تماماً.
ويمكن أن يكون هذا الوضع أشبه بما رصدته رواية “قصة مدينتين” للكاتب تشارلز ديكنز، والتي تناولت إرهاصات الثورة الفرنسية في مدينة باريس والنقيض التام للأحداث في مدينة لندن.
وفي الشهر الماضي، ألقى المستشار الاقتصادي في مجموعة أليانز العالمية “محمد العريان”، الضوء على هذا التناقض الصارخ بين الشركات الصغيرة والأفراد المتمثلة في “Main Street” وبين الأسواق المالية التي تمثلها “Wall Street”، معتقداً أن هذا الوضع مدفوعاً ببعض المشاكل القديمة والحالية.
في المدينة الأولى، يسيطر التفاؤل القوي على المعنويات بما يعزز شهية الإقبال على المخاطرة ويقود المكاسب القوية في أسواق الأسهم العالمية، فضلاً عن الزيادة الحادة في ثروات الأثرياء بالفعل.
ويأتي كل ما سبق في سياق آمال تعافي الاقتصاد العالمي وسط التخفيف التدريجي لعمليات الإغلاق الوطني المطبقة في كافة أنحاء العالم قبل أشهر مضت، إضافة إلى الحزم التحفيزية والسيولة الهائلة التي ضختها البنوك المركزية لدعم الأسواق المالية.
ويقودنا ذلك إلى طرح السؤال التالي: هل الأسوأ قد انتهى حقاً؟، قد يكون البعض محقاً في التكهن بأنه قد انتهى بالنظر إلى تعافي النشاط الاقتصادي في عدد من الدول من المستويات المتدنية المسجلة في بداية العام وتقرير الوظائف الأمريكي عن مايو/آيار الماضي فضلاً عن إعادة الفتح التدريجي لبعض الاقتصادات.
وأظهر تقرير الوظائف الأمريكي أن اقتصاد الولايات المتحدة أضاف 2.5 مليون وظيفة لسوق العمل خلال الشهر الماضي، وهو ما يعتبر خطوة تاريخية وتتعارض مع التوقعات التي كانت تشير إلى فقدان نحو 8 ملايين وظيفة، وإن كان هناك بعض الشكوك المثارة حول مدى دقة هذه الأرقام.
ويقول الاقتصادي “محمد العريان” خلال تحليل نشرته وكالة “بلومبرج أوبينيون” إن تقرير الوظائف المثير للإعجاب قد يكون عبارة عن مزيج من مجموعة من العناصر التالية: اقتصاد أمريكي يتسم بالمرونة وتأثير تدابير السياسة لحماية الوظائف ومشكلة البيانات التي تخضع للمراجعة، مشيراً إلى أن كل هذا من غير المرجح معرفة دقته قبل تقرير الوظائف التالي.
واستفاد مستثمرو الأسهم بشكل كبير من آمال تعافي الاقتصاد على شكل V، والذي يعني نمواً قوياً وسريعاً في الاقتصاد بعد تراجعاً حاداً، حيث أظهرت استطلاعات الرأي الخاصة بالنشاط الصناعي والخدمي في كل من الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، تحسناً ملحوظاً في الأداء وإن كان البعض لا يزال داخل نطاق الانكماش.
وفي حقيقة الأمر، فإنه في أعقاب الاضطرابات القوية التي سيطرت على أسواق الأسهم في بداية تفشي الوباء قبل أشهر مضت، استجاب بنك الاحتياطي الفيدرالي للأزمة باستخدام أدوات استثنائية.
وقرر المركزي الأمريكي حينذاك تنفيذ عمليات خفض طارئة لمعدلات الفائدة ليدفعها إلى مستويات قريبة من الصفر لأول مرة على الإطلاق، كما فعل برامج شراء الأصول مع تمديدها لتشمل سندات الشركات بل وبكميات محدودة في بعض الفئات.
وطالما كانت البيانات آخذة في التحسن مع وجود رياح داعمة من السيولة التي يتم ضخها من قبل البنوك المركزية، فمن المحتمل أن يستمر الصعود في أسواق الأسهم، كما يقول “إد كامبل” مدير محفظة استثمارية في “كيو.إم.إيه” خلال تعليقات نقلتها وكالة بلومبرج.
ورغم أن الثلاثة أشهر الماضية كانت مؤلمة للغاية على الكثيرين، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة للمليارديرات عموماً، وفي الولايات المتحدة تحديداً مع عودة مؤشرات الأسهم إلى مستويات قياسية مما ساعد في محو الخسائر المسجلة في مجمل هذا العام حتى الآن جراء تفشي الوباء.
وبحسب تقرير حديث صادر عن معهد دراسات السياسة، فإن المليارديرات الأمريكيين أصبحواً أكثر ثراءً بنحو 565 مليار دولار منذ 18 مارس/آذار، حيث صعد إجمالي ثرواتهم إلى 3.5 تريليون دولار مقارنة مع المستوى المنخفض المسجل قرب بداية الوباء.
وعلى سبيل المثال، فإن ثروة مؤسس شركة أمازون “جيف بيزوس” وحده ارتفعت تقريباً 36.2 مليار دولار مقارنة مع مستواها في 18 مارس/آذار الماضي.
وجاء ذلك مع قفزة قوية في سهم شركة “أمازون” تصل لنحو 50 بالمائة، وسط طفرة في التسوق عبر الإنترنت جراء قيود الإغلاق، وهو ما يقارن مع المستويات المنخفضة المسجلة في منتصف مارس/آذار الماضي.
وفي الوقت نفسه، صعدت ثروة المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك “مارك زوكربيرج” بنحو 30.1 مليار دولار منذ 18 مارس/آذار حتى تاريخ صدور التقرير.
وفي هذا الشأن، ترى “كريستينا هوبر” كبيرة المحللين الاستراتيجيين للسوق العالمية في شركة “إنفسكو” في تعليقات نشرها موقع “سي.إن.إن بيزنس” أن مكاسب سوق الأسهم وفصلها عن الاقتصاد الحقيقي تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة.
ويقول الأستاذ في جامعة نيويورك “إدوارد وولف” إن ارتفاع سوق الأسهم يساعد الأغنياء أكثر من الباقي، وذلك لأن فئة أغنى 10 بالمائة من الأسر الأمريكية كانت تمتلك 84 بالمائة من كافة الأسهم في عام 2016، نقلاً عن موقع “سي.إن.إن بيزنس”.
أما في المدينة الثانية، يوجد فقدان حاد للوظائف في كافة أنحاء العالم ومعاناة الشركات الصغيرة التي يلجأ البعض منها إلى إشهار إفلاسه وسط توقعات بزيادة عدد الفقراء عالمياً بفعل الوباء.
ومنذ منتصف مارس/آذار الماضي، تقدم نحو 43 مليون أمريكي بطلبات للحصول على إعانة البطالة في الولايات المتحدة والتي ارتفعت أسبوعياً بنحو 600 دولار.
لكن في الوقت نفسه، تسارع متوسط أجور الموظفين في الولايات المتحدة خلال شهر أبريل/نيسان الماضي بوتيرة قياسية بلغت 7.9 بالمائة على أساس سنوي، وهو ما جاء مع فقدان نحو 20 مليون وظيفة في تلك الفترة أغلبهم من أصحاب الدخول المنخفضة.
ويتوقع تقرير حديث صادر عن “كور سايت” للأبحاث أن يتم إغلاق ما يتراوح بين 20 إلى 25 ألف متجر للتجزئة في الولايات المتحدة خلال العام الجاري، وهو ما قد يكون مستوى قياسياً جديداً مقارنة مع إغلاق ما يقل قليلاً عن 10 آلاف متجر في العام الماضي.
وفي هذا السياق، تقول مؤسسة والرئيسة التنفيذية لشركة “كور سايت” للأبحاث “ديبورا وينسويج” أنه بالنظر إلى أن التعافي لمستويات ما قبل الأزمة قد يكون تدريجياً، فمن غير المحتمل أن يكون لدى تجار التجزئة الذين كانوا يكافحون من أجل مواصلة العمل قبل الأزمة ما يكفي لاستمرار في مسار التعافي ويمكن أن ينتهي بهم الأمر بلإغلاق عدد من المتاجر.
وفي المقابل، من المتوقع انخفاض مبيعات التجزئة في الولايات المتحدة بأكثر من 10 بالمائة في عام 2020، مع حقيقة أنها قد لا تعاود الصعود مرة أخرى لمستويات ما قبل أزمة “كوفيد-19” حتى عام 2022، وفقاً لتقرير صادر عن موقع “إي ماركتر”.
وفي حين أن معدل البطالة يرتفع بوتيرة دون التوقعات في منطقة اليورو بدعم خطط العمل الجزئي التي تشتمل على برامج دعم للشركات للإبقاء على الموظفين، إلا أنه تسارع لأعلى مستوى منذ عام 2015 في ألمانيا رغم الدعم الحكومي.
وتأتي البطالة بين الشباب وكذلك الزيادة المفاجئة في حالات الإفلاس من بين المخاوف الأبرز التي قد تواجه الاقتصاد حول العالم في العام الحالي، بحسب تقرير حديث أعده منتدى الاقتصاد العالمي.
وعلى الصعيد العالمي، توقع البنك الدولي في تقرير الآفاق الاقتصادية الأخير انكماش الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 5.2 بالمائة هذا العام والتي من شأنها أن تكون أسوأ وتيرة منذ الحرب العالمية الثانية، ما سيؤدي لزيادة حادة في أعداد الفقراء.
وقال رئيس البنك الدولي “ديفيد مالباس” إن التقديرات الحالية تظهر أنه يمكن دفع نحو 60 مليون شخص إلى فئة الفقر المدقع خلال عام 2020، مع الإشارة إلى أنه من المرجح زيادة هذه التقديرات أكثر، حيث إن إعادة فتح الاقتصادات المتقدمة هي العامل الأساسي المحدد.
ويؤكد كبير الاقتصاديين في “إر.إس.إم” الدولية “جو بروسويلاس” خلال تحليل نشره موقع “سي.إن.إن بيزنس” أن العالم يشهد خليط قابل للاشتعال مكون من فقدان الدخل وعدم المساواة.