القناع الواقي بين الموضة والفن* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
القناع الواقي من فايروس كورونا لا يُختصر حضوره على المجال الطبي بل يتخطّاه إلى عالم الفن وتصميم الأزياء. لا غرابة في ذلك البتة فالفن لا يترك مجالا إلّا ويقتحمه، ينقضه، يعيد تشكيله، يؤوّله، أو يُصعّد من أهميته ويساهم في إغنائه.
لا يعنينا هنا البحث في “جمالية” أو بشاعة الكمامة من الناحية الفنية، بقدر ما يعنينا ما تكشفه عن شخصية الفنان المُبتكر أو الراسم عليها، والذي يرغب في ارتدائها دون غيرها على السواء.
ويبرز هنا نوعان من الكمامات: الكمامة الخارجة من دور الأزياء، والكمامة الفنية لأهداف جمالية بحتة كنوع من توثيق للمرحلة التاريخية التي يعيشها العالم.
وها قد دخلنا عالميا إلى مرحلة التعايش مع فايروس كوفيد – 19. فُتحت معظم المدن مع تدابير احتياطية أهمها التباعد الاجتماعي وأخرى وقائية يتصدّرها ارتداء الكمامة الطبية عند الخروج من المنزل، أو على الأقل حين التواجد في أماكن مغلقة يكثر فيها الناس كمكاتب العمل والأسواق التجارية.
وفكرة “التعايش” مع هذا الفايروس وفق شروط صحية محدّدة خفّفت كثيرا من حالة الخوف من الإصابة بالمرض. ولكن في الآن ذاته شكلت امتعاضا عند الكثيرين ليس لناحية الإزعاج الذي يسبّبه، خاصة عند حلول فصل الصيف. ولكن لأنه لا “يُلائم” الملبس في عصر يشكل المظهر الخارجي للمرء فيه أهمية كبرى، شئنا أم أبينا الاعتراف بذلك.
فخلافا لما اعتقد البعض أن أزمة كوفيد – 19 التي اجتاحت الكوكب ستبدّل في منطق العالم لناحية الحد من النزوع إلى الربح المادي على حساب أي شيء آخر، وستدفع نحو الخروج من جنون العالم الاستهلاكي والتباهي بارتداء ماركات عالمية، عمدت أهم دور الأزياء العالمية إلى اقتناص “فرصة” انتشار الوباء وفرض ارتداء الكمامة الطبية إلى ابتكار تصاميم بألوان وأشكال مختلفة تتماشى مع أنماط ألوان الملابس.
وإن بادرت بعض تلك الدور صاحبة المنتجات الأغلى ثمنا عالميا إلى توزيع الكمامات الطبية من إنتاجها “مجانا” ربما لدرء اتهامها باستغلال موقف انتشار الوباء لجني المزيد من المال، فهي ومن المؤكد لن تستمرّ طويلا في هذه “المجانية” المزيفة.
ويجدر الذكر هنا أن داري ديور وشانيل الفرنسيتين للأزياء الراقية أعلنتا أنهما “ستنتجان أقنعة طبية للمساعدة على تغطية النقص الحاد في هذا المنتج بفرنسا، ولتعزيز الإمدادات ضمن جهود مكافحة تفشي فايروس كورونا. وهذا ما قامت به تماما ربما كجزء من حملة ترويجية “موفّقة” في عالم يختنق بالمظاهر ويتقعّر من الداخل.
وبعد الانقضاء الحتمي لمرحلة التعاضد المجاني القصيرة الأمد، ذكرت وكالات الأنباء العالمية “تدفق المشاهير وأصحاب النفوذ والمصمّمين على مدينة باريس، ضمن معرض باريس للموضة، ليرصد الحضور اتجاها جديدا حُجز له مقعد بين منصات العرض، من خلال اختيار الحضور حماية أنفسهم بأناقة، عبر أقنعة من علامة شانيل وما وازاها من أسماء تندرج تحت خانة الأزياء الفاخرة”.
ولم يكن لبنان الرائد دوما في مجال الإبداع الفني والتسويق والاستهلاك خارج هذه المنظومة العالمية، فقد قامت دور أزياء متواضعة نسبيا في تصميم كمامات جميلة ومتنوعة. وعرضتها منذ البداية بأسعار محدودة تلبّي “حاجة” اللبناني المتعطش دائما إلى الحفاظ على جمالية المظهر مهما ساءت الأمور وطال مفعولها.
وتقول إحدى صاحبات هذه الدور العاملة على الحفاظ على التراث العربي بشكل عام واللبناني بشكل خاص “نريد أن نحافظ على حرفيينا والحرف التي يتقنونها في ظل الإغلاق الشامل وتوقّف الأعمال وازدياد الأزمة المعيشية، كما أننا ومن جهة أخرى نسعى إلى الحفاظ على زبائننا الذين يهتّمون بمظهرهم دون أن نفرض عليهم أسعارا عالية”. وأضافت “كل قناع هو مختلف عن الآخر، ويمكن ارتداؤه على الجهتين، وقابل للغسل بالماء والصابون وكيّه على درجة حرارة عالية لتعقيمه، ويأتي ضمن كيس من القماش لوضعه داخل الحقيبة”.
أما النوع الثاني من الكمامات فجاء مباشرة من مراسم فنانين غربيين وعرب على السواء، إما كنوع من التعبير الفني البحت وإما للمُشاركة في حماية مجتمعاتهم من تفشي الوباء.
وانتشرت على مواقع التواصل ولاسيما فيسبوك وإنستغرام منذ أكثر من شهر، صور عن كمامات صنعها فنانون في مراسمهم وبيوتهم، في غاية الابتكار وليست مُخصصة بالضرورة للارتداء، تميزت بأجواء تجريدية وأسطورية في الأشكال والرسومات وحمل بعضها مشاهد طبيعية مستوحاة من أعمال فنانين عالميين كفينسنت فان غوخ وفريدا كاهلو وغيرهما من الفنانين.
هي أقنعة واقية، ربما، لا تستجيب بالضرورة إلى المواصفات الطبية. ولكنها تتميّز بجمالية طريفة حينا ومُخيفة في أحيان أخرى، كشكل من أشكال التعبير الفني الذي لا يختلف عن غيره من الأعمال الفنية.
نذكر هنا على سبيل المثال، الفنانة التركية فندا تونسال التي منعها الحضر الصحي من التوجه إلى مرسمها في أنقرة، فاستحدثت في بيتها مرسما قائلة لنفسها “عليّ أن أصنع أعمالا فنية هنا” فجاءت أقنعتها غاية في التنوّع تلبّي رغبتها في أن تبقى أعمالها شاهدة على هذه المرحلة الحرجة من حياة البشرية.
لا يمكن للفن أن يبقى خارج أي حدث في العالم، وهو حاضر دائما في تناول أدنى تفاصيله حتى تلك غير المرئية بالنسبة إلى الآخرين. ومن هذا المنظار لم يخرج القناع الواقي من دائرة الرؤية تلك، ولا يزال يتبلور ظهوره إلى اليوم في الأعمال الفنية، شكلا ومضمونا.