تهويل الشعارات وتهوين المصطلحات* تاج الدين عبدالحق

النشرة الدولية –

في حياتنا السياسية العربية، الكثير من الشعارات والمصطلحات التي تتناقض مضامينها، مع تجلياتها في الواقع، لدرجة أصبح معها من السهل الاستدلال على واقع الحال، بالبحث عن المعنى المناقض للمصطلح أو الشعار. وقائمة الأمثلة على ذلك تطول عددا، وتتشعب مدى لتشمل الكثير من التجارب الماثلة حاليا، أو تلك الضاربة في التاريخ.

وآخر الأمثلة التي تتردد حاليا في الأخبار، كمصطلح أو شعار، اسم حكومة الوفاق في ليبيا، وبالتحديد في العاصمة طرابلس، فلا هي في وفاق مع الداخل، ولا على وئام مع الخارج. فهي تقود حربا أهلية داخلية، لا أحد يعرف كيف تنتهي وإلى أي المآلات تصل. فضلا عن أننا نجد هذه الحكومة في خلافات من كل نوع مع أطراف إقليمية ودولية، ليتحول شعار الوفاق، إلى مصطلح كاريكاتوري ليس له من اسمه نصيب.

حكومة الوفاق، ليست سابقة فهي تذكرنا بحكومة دولة القانون التي ترأسها نوري المالكي في العراق خلال العقد الماضي والتي وصل فسادها سياسيا وماليا إلى مستويات لم يعرفها العراق في تاريخه القديم وحاضره المعاصر. هي أيضا تذكرنا بحكومة الإنقاذ التي قادها الرئيس المعزول عمر حسن البشير ، وتسلطت على حياة السودانيين أكثر من ثلاثين عاما، وانتهت بتقسيم البلاد، إلى شمال وجنوب، وحروب في الشرق والغرب، وإلى انهيارات اقتصادية واجتماعية، وعزلة دولية لا تزال تعاني منها إلى الآن وتدفع ثمنها من معاناة السودانيين، وآلامهم.

هذا التناقض يستدعي بالضرورة شعار حزب البعث العربي الاشتراكي الفضفاض، ألا وهو: “ أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ”، لنجد بعد أكثر من ثمانين عاما على إطلاقه، وستين عاما على وصول نظامين بعثيين في كل من سوريا والعراق، أن البلدين يجاهدان من أجل المحافظة على وحدتهما الوطنية القطرية، فيما تحوَّل الشعار القومي المأثور إلى قول يتندر به كلّ مَن عايش تجربة البلدين أو اكتوى بنضالهما من أجل الوصول للوحدة العربية المنشودة .

تناقض الشعار مع المضمون، لم يبق قاصرا على الحكومات والأجهزة الرسمية، بل طال -أيضا- الأحزاب والجماعات السياسية. ولعل مصطلح ”الإخوان المسلمين “ الذي سيطر على حياتنا السياسية والفكرية ردحا طويلا من الزمن، من الأمثلة الصارخة على الهوّة بين الأقوال والأفعال، عندما اكتشفنا بعد التجربة، أن هذه الجماعة -التي تحالفت مع الشمال واليمين والتقدمي والرجعي، والتي كانت تهدف إلى تجاوز القوميات والحدود السياسية- لم تكن إلا عامل فرقة حتى ضمن الصف الإسلامي ذاته إذ توزَّع التنظيم وتفرَّق بين وسطي ميكافيلي، يغير مواقفه حسب الطلب ويطلق الفتاوى وفق المصالح ، وبين متطرف متشدد في التفكير والسلوك، جعلته على خصومة مع الجميع حتى مع فصائل كانت في الخندق ذاته، قبل أن تتباين في تشددها وتطرفها مسببة حروبا وصراعات ألحقت خسارة هائلة في موارد الأمة البشرية والمادية، فضلا عن إهدار فرص لايمكن تعويضها .

البراعة في تلوين المصطلحات والشعارات، أخذَت مع تزايد التجربة، مَنْحى آخر قام على التهوين، أو التهويل؛ ما كبَّدنا أثمانا ما زلنا غير قادرين على تحمل تبعاتها، وكُلفها إلى الآن . من ذلك مثلا تعبير النكبة الذي لخص الخسارة التي لحقت بالعرب نتيجة احتلال فلسطين عام 1948 وقيام الدولة العبرية. ومع أن ذلك التعبير كمعنى مجرد كان متوافقا مع حجم الخسارة التي لحقت بالفلسطينيين والأذى الذي أصابهم، إلا انه استخدِم سياسيا لتهويل مقصود أعطى لتسلط أنظمة عسكرية وحكومات فاسدة رفعت شعارات كاذبة، شرعية لا تستحقها، وقطعت الطريق، في الوقت ذاته أمام أصوات عاقلة حاولت التعامل مع الواقع، والبحث عن مخارج كان يمكن أن تجنبنا إهدار الكثير من الفرص وهذا الكم من الخسائر البشرية والمادية على مدى ثمانين عاما .

على أننا لم ننجُ في مقابل التهويل من التهوين، الذي جسده توصيف نتائج حرب حزيران عام 1967 بالنكسة، وهو تهوين مقصود أيضا، أريدَ به الإبقاء على أنظمة وسياسات كانت جزءًا من الهزيمة التي لحقت بالعرب وأدت إلى ضياع مساحات من الأرض العربية، لا تقل عن تلك التي ضاعت في النكبة الأولى .

على أن المصطلحات التي رفعناها، تعبيرا عن فروسية كاذبة، وسياسات غير ناضجة، لم تكن أكثر سوءًا، من مصطلحات وشعارات رفعناها في مرحلة تالية، وبالتحديد عند بدء الهرولة لتحقيق السلام ، فوجدنا من يفسر معضلة السلام بكل تعقيداته ومتطلباته بأنها “حاجز نفسي“ لا أكثر وأن مبادرة صادمة واحدة لإزالة ذلك الحاجز كفيلة بحل ما استعصى على الآلة العسكرية، وتجاوز العقبات التي واجهت الجهود السياسية، وإيجاد تسويات سياسية مقبولة. كما وجدنا من يتحدث عن سلام الشجعان، في تضخيم كاذب للذات، ليقع بوعي أو دون وعي في براثن اتفاقات مشوهة لم نَجن منها إلا مزيدًا مِن الخذلان، الذي لا زال يقود مسيرتنا في متاهة لا نعرف نهايتها ومآلاتها.

نقلاً عن موقع “إرم نيوز” الإخباري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button