الشقاء اللبناني في محطته الجديدة: هل سقط لبنان التاريخي نهائياً؟* رامي الريس
النشرة الدولية –
تحلّ الذكرى المئوية لولادة لبنان الكبير (الذي أصبح لاحقاً الجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال سنة 1943) في أسوأ لحظات «الجمهورية» وأكثرها سواداً منذ عقود بالنظر للتحديات غير المسبوقة التي تواجهها البلاد على مختلف المستويات، وفي ظل انقسامات عميقة بين اللبنانيين حيال الثوابت الوطنية ومرتكزات العيش المشترك.
واللافت في هذه الحقبة «ازدهار» النظريات والطروحات ذات الطابع التقسيمي، بحيث قرأ اللبنانيون مقترحات تطالب بالفيدرالية، وتناقلوا على وسائل التواصل الاجتماعي خرائط ملونة ترسم حدود «الكانتونات الطائفية والمذهبية» التي يضاهي عددها عدد الأقضية الإدارية القائمة راهناً في لبنان. وإذ يعتبر قلائل أن هذا الخيار التقسيمي قد يكون الحل الوحيد لمشكلة الفشل الجماعي اللبناني في إدارة الدولة الوطنية الموحدة، ترى الأكثرية الساحقة من اللبنانيين أن هذا المسار تدميري بكل ما للكلمة من معنى، خصوصاً أن لبنان تجاوز هذا «الفخ» خلال حقبة الحرب الأهلية الطويلة (1975 – 1990)، فهل يجوز أن يسقط فيه اليوم؟
لعل أصحاب هذه النظريات يتناسون بعض المسلمات البديهية التي تفترضها الصيغة الفيدرالية، التي تتمثل بوحدة السياسة الخارجية والدفاعية، وهما الملفان الأكثر تعقيداً في لبنان بحيث تتفاقم الخلافات السياسية حولهما.
في الولايات المتحدة حيث النظام الفيدرالي هو الأقدم والأكثر تجذراً، تحظى الولايات المختلفة باستقلالها الذاتي على صعيد إدارة شؤونها الداخلية، إلا أنَّها تسلم للحكومة الفيدرالية كل الملفات والقرارات المتصلة بالسياستين الخارجية والدفاعية. فلا تستطيع ولاية تكساس، على سبيل المثال، أن تعارض سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترمب حيال موسكو أو طهران، أو أن ترفض قراره الانسحاب من اتفاق باريس حول المناخ!
من هنا، لا مفرّ من التذكير أن لبنان تتنازعه المحاور الإقليمية منذ نشأته، وأهله كانوا وما زالوا يناقشون دور لبنان في المنطقة، مع العلم أنهم لا يملكون ترف هذا النقاش في معظم الأحيان، لعدم امتلاكهم العناصر التي تخولهم التأثير في هوية لبنان وموقعه وتحالفاته الخارجية. غالباً ما كانت الساحة اللبنانية مستباحة وخاضعة للتأثيرات الخارجية التي تعكس نفسها في صراعات وانقسامات في الداخل، ووصلت حدود الاحتقان إلى مستوياتٍ غير مسبوقة انفجرت في نزاعات مسلحة مرحلية أو مديدة بحسب الظروف المحيطة بالصراع، ومدى استفادة اللاعبين الخارجيين من بقاء «الساحة» مشتعلة!
على صعيد السياسة الخارجية، لم يسبق أن وصل لبنان إلى هذا المستوى من التراجع والتدهور في علاقاته الخارجية، وفي طليعتها علاقاته العربية. لقد كان الصراع الداخلي اللبناني محتدماً في حقباتٍ سابقة حيال هوية لبنان العربية، وهو ما حُسم، نظرياً على الأقل، في اتفاق الطائف (1989) الذي حسم أيضاً صيغة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين بمعزل عن النمو الديموغرافي و«نهائية» لبنان.
لطالما تمتع لبنان بعلاقاتٍ وطيدة مع الدول العربية، وهو عضو مؤسس في جامعة الدول العربية (1945)، ولطالما ساهم اللبنانيون في نهضة المجتمعات العربية وازدهارها وكانت جالياتهم فاعلة في تلك المجتمعات ومتناسقة مع تقاليدها وقيمها ومتفاعلة مع عناصرها ومكوناتها. ولطالما دعمت الدول العربية لبنان في منعطفاته الصعبة كالحرب الداخلية والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ومساندة العملة الوطنية (التي تعيش مساراً انحدارياً خطيراً في هذه المرحلة) وجهود إعادة الإعمار والتنمية وسواها من المجالات.
أما اليوم، فالعلاقات اللبنانية – العربية تراجعت إلى مستوياتٍ غير مسبوقة نتيجة سياسات سابقة لقوى لبنانية ارتكزت إلى كثير من الشعبوية والقليل من الدبلوماسية. وهي السياسات ذاتها التي أدت إلى اصطدام لبنان مع المجتمع الدولي في ملفاتٍ معقدة كملف النازحين السوريين على سبيل المثال.
الأكيد أن استعادة لبنان لدفء علاقاته العربية، هو مدخل أساسي لحماية الاستقرار الداخلي وللحفاظ على التوازنات في تكوينه السياسي، التي غالباً ما أدى اختلالها إلى انزلاق لبنان نحو منحدرات خطيرة. لذلك، تشكل عودة لبنان إلى الحضن العربي ضرورة محلية بقدر ما هي ضرورة عربية أيضاً.
لا خلاف على أن الإطار الرسمي العربي الجامع هو إطار مأزوم ويفتقد إلى المبادرة السياسية، وتعيق تطوير عناصره الانقسامات الحادة بين مكوناته وتضارب مصالحها الفئوية. ولا شك أن ثمة حاجة نظرية وعملية لتجديد فكرة العروبة ومفهومها لتكون أكثر تحرراً وديمقراطية والتصاقاً بهموم الشعوب العربية، ولا سيما الفئات الشبابية التي تستحق العيش في مجتمعات تراعي حقوق الإنسان ورفاهية عيشه اللائق والكريم.
إن الحاجة للتجديد تبرز أكثر من أي وقتٍ مضى لتواكب ما تعيشه الكرة الأرضية من تحولات غير استثنائية على مختلف المستويات، وتحتمه الاعتبارات، ليس التاريخية والجغرافية والثقافية واللغوية فحسب؛ بل أيضاً الاعتبارات الاقتصادية والمصلحية الصرفة. وبمعزل عن تمكن الحكومات العربية من خوض هذا المسار أم فشلها في إطلاقه، فإن ذلك لا ينفي ضرورة وجود مظلة عربية، لبنان أحوج ما يكون إليها، بما يتناسب مع تاريخه وحاضره ومستقبله. إن أكلاف التخلي عن لبنان أكبر بكثير من أكلاف إحاطته ودعمه ومواكبته لاستعادة موقعه الطبيعي.
أما فيما يخص السياسة الدفاعية، فقد سبق لرئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون أن وعد مراراً بإطلاق النقاش حولها، في استكمال لما قام به سلفه الرئيس السابق ميشال سليمان. إلا أنه عاد وتراجع عن الدعوة إلى هذا الحوار الضروري لكي تستعيد الدولة وظائفها الأساسية في الحفاظ على السيادة وحماية الحدود، في إطار من التفاهم يظلله غطاء خارجي في اللحظة الإقليمية المناسبة التي لم تتشكل عناصرها المواتية حتى اللحظة.
إن المحاولات الحثيثة لتغيير وجه لبنان لا تقتصر على الشق السياسي والدفاعي، بل إنها تطال كل مرتكزات ومقومات وجوده، ومنها طبيعة نظامه الاقتصادي والتدمير المنهجي لمؤسساته وتحطيم تراثه القائم على التعددية والتنوع والانفتاح. صحيح أن نظام لبنان الاقتصادي يفتقر لأبسط مقومات العدالة الاجتماعية، وهذا من الأخطاء التاريخية فيه، ولكن هذا لا يعني التسليم بتحويله إلى دولة فاشلة ومفلسة.
من هنا، فإن «غزوات» التكسير المتلاحق لوسط العاصمة اللبنانية بيروت، رغم أنها قد تخفي في مكان ما غضب شعبٍ، فقدت عملته الوطنية نصف قيمتها في غضون أشهر قليلة، فإنها تعكس أيضاً حالات الكراهية المتبادلة بين مكونات الشعب اللبناني، التي غذّتها السياسات الشعبوية والتقسيمية العقيمة والخطيرة.
لبنان مرة جديدة أمام منعطف خطير، فهل سيسقط نهائياً في هذا الامتحان العسير؟