سد النهضة يعيد تجربة سد أتاتورك* حمزة عليان
النشرة الدولية –
نهر النيل بالنسبة إلى مصر مسألة حياة أو موت وبالنسبة إلى إثيوبيا حق من حقوق السيادة، وما بينهما مساحة شاسعة من الاختلافات، فالحروب من أجل المياه ليست حلاً، والأنهار العابرة للحدود ثروة مشتركة تنظمها وتحكمها قوانين دولية، ولن يكون مقبولاً أن تستأثر بها إثيوبيا على حساب 150 مليون مواطن مصري وسوداني.
عشر سنوات ومصر تفاوض وفي كل جولة كان التأجيل سيد الموقف، واستغلت أديس أبابا اندلاع ثورة الربيع العربي 2011، لتبدأ بناء السد، ولم تكترث لمطالبات مصر في حينه ظناً منها أن القاهرة مشغولة بثورة الشباب ولا وقت لديها لخوض معركة على حدودها.
وطوّقت إثيوبيا عنق مصر وذلك بإلغاء اتفاقيات أطلقت عليها مسمى “استعمارية” تمسكت بها القاهرة حفظا لحقوقها المائية والتاريخية لكن أديس أبابا استبدلتها “باتفاقية الإطار” في أوغندا 2010 التي وقعت عليها 9 دول من حوض النيل باستثناء مصر والسودان وبذلك جردتها من أقوى سلاح بيدها.
رفعت مصر الصوت وراحت تروج لخطاب دعائي مليء بالشعارات التي لم يعد لها مكان، وإن استجابت إثيوبيا قليلاً بالموافقة على تكليف مكتبين استشاريين فنيين ذوي طابع دولي، للدراسة والتقييم وعندما انتهيا منها، ردت أديس أبابا: هؤلاء منحازون وغير حياديين!
تغيرت السلطة السياسية في كل من القاهرة وإثيوبيا، وتبدلت لغة التخاطب بينهما، والقبول المصري بمشروع السد وبنائه، طالما يدخل في عداد تنمية الشعوب الفقيرة وتحسين مستوى معيشتهم، ومن لقاء إلى آخر وصولاً للقمة ومن بعدها الاتفاق التاريخي (اتفاق المبادئ) عام 2015 بمدينة الخرطوم بالسودان بين رؤساء الدول الثلاث والتعهد بعدم الإضرار بمصالح شعوب دولتي المصب، وسارت الأمور على خير ما يرام!
اقتربت ساعة الصفر وما زالت القاهرة تبحث عن منفذ للخلاص، حاولت إشراك أميركا باعتبارها حليفة للدولتين وبإمكانها أن تمارس تأثيراً على أديس أبابا، فاستضافت واشنطن الاجتماعات وبمساعدة مدير البنك الدولي، إلى أن انقشعت الغيمة السوداء وظهر الدخان الأبيض، وقبل التوقيع النهائي جاء الصوت الإثيوبي: الاتفاقية منحازة لمصلحة مصر ولن نقبل التوقيع!!
عادت مصر إلى الدبلوماسية الهادئة والنشطة، دارت على عواصم إفريقية أوصلت رسالتها، وحددت موقفها: “لن نقبل أن نعطش أو نجوع أو تتوقف لدينا الحياة ولن نسمح بإكمال بناء السد وبملء الخزان! هذا خط أحمر!
وماذا بعد؟
هل بمقدور مصر اليوم وبعد أكثر من عشر سنوات أن تغير من واقع السد أو بعدد سنوات الملء، أو بالكمية التي سيحتجزها من المياه والتي تصل إلى 74 مليار متر مكعب من نهر النيل بعد أن كانت بالسنوات الأولى 14؟ خوفي أن تتكرر حكاية سد أتاتورك مع كل من سورية والعراق في التسعينيات، عندما فرضت تركيا شروطها وملأت السد بشروطها ولم تأبه للقانون الدولي ولا لمصالح الدول والشعوب المتجاورة معها!
نهر النيل بالنسبة إلى مصر مسألة حياة أو موت وبالنسبة إلى إثيوبيا حق من حقوق السيادة، وما بينهما مساحة شاسعة من الاختلافات، وهناك فارق كبير بين حالتي سورية والعراق مع تركيا وحالة مصر مع إثيوبيا، والحروب من أجل المياه ليست حلاً، والأنهار العابرة للحدود ثروة مشتركة ينظمها وتحكمها قوانين دولية، ولن يكون مقبولاً أن تستأثر بها إثيوبيا وعلى حساب 150 مليون مواطن مصري وسوداني.
قد تكون الغلبة في نهاية الأمر “لدولة المنبع” والتي تتحكم في المياه كما تشتهي، تفتح “الصنبور” كما يقال أو تغلقه ساعة تشاء، خصوصا إذا كانت تتفوق أو تتمتع بمصادر للقوة تجعلها تفرض شروطها وتستقوي بها على الجيران!
تسوية أم “تحكيم دولي” أم “اتفاق عادل وملزم” قبل الملء الأول للسد؟ تلك هي المعادلة، وأخطر ما في الأمر أن إثيوبيا تدعي الحق المطلق في تغيير وتعديل قواعد ملء السد وتشغيله بشكل أحادي دون الالتفات إلى مصالح مصر والسودان! فهي أي أديس أبابا لا تقدم أي ضمانات في فترات الجفاف والجفاف الممتد، ولا توفر أي حماية من الأضرار المحتملة والجسيمة، ولسان حالها يقول لدينا حق غير مشروط في استخدام مياه النيل الأزرق ووفق رؤيتنا!
سأجازف بالرأي وأقول إن إثيوبيا ستبدأ ملء سد النهضة كما أرادت في الشهر القادم، وستكون مصر أمام امتحان عسير وتحد كبير، وما إذا كان بمقدورها أن تمنع أو تؤجل أو تعدل عملية تحويل مياه نهر النيل لملء الخزان وفق متطلباتها.