ردود فعل الإعلام العربي على الاحتجاجات الأميركية: كيف ترسم الاعتبارات الإقليمية ملامح التغطية الإعلامية؟* محمد عبد العزيز, شينا كاتز
النشرة الدولية –
من ميزات العيش في عصر العولمة هي أن تشهد كم كانت سريعة وشاملة ردود فعل وسائل الإعلام الدولية على القتل الوحشي الذي أقدم عليه شرطي وراح ضحيته جورج فلويد، رجل أسود غير مسلح، والاحتجاجات التي نتجت عنه. وقد تأرجحت ردود الفعل في وسائل الإعلام العربية بين محاولات الشرح للقراء عن التصدّعات الاجتماعية والعنصرية الكيانيّة في الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وما قد تعنيه هذه الاحتجاجات للانتخابات المقبلة من جهة أخرى ـ مع السؤال الأساسي عمّا قد تعنيه للمنطقة.
من منظور سياسي، تتشكل صورة الاحتجاجات على ضوء ردود فعل الحكومات العربية على الربيع العربي، عندما تم سحق الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في عدد كبير من الدول العربية. أما الملفت للنظر، وبعكس ما شهدته وسائل الإعلام، فهو النقص في تصريحات المسؤولين الحكوميين، باستثناء المسؤولين الفلسطينيين. وفي حين يمكن أن يُعزى هذا الصمت جزئيا إلى حقيقة أن الاحتجاجات الحالية في الولايات المتحدة هي قضية داخلية بحتة، من المهم أيضا ملاحظة أن العديد من وسائل الإعلام التابعة للسلطة قدّمت وجهات نظر مطابقة لسياسة بلدانها، ما يشير إلى اهتمام في توجيه رسائل غير مباشرة على موضوع الاحتجاجات دون الإدلاء بتعليقات صريحة.
رسم خريطة السياسة الأميركية
لقد ألقى الكثير من وسائل الإعلام العربية اللوم على الحزبية المفرطة في تأجيج الاحتجاجات، ولكن يتم تصويب الكم الأكبر من الانتقادات إلى حد كبير وفق المواقف الحكومية والتنظيمية الحالية للدول العربية تجاه السياسات الأميركية.
على سبيل المثال، لقد رأت دولة واحدة على الأقل الاحتجاجات من منظور الاضطرابات التي شهدتها بدورها مؤخرا، وقد جاء رد فعلها وفقا لذلك. فعندما واجهت مصر احتجاجات مناهضة للحكومة العام الماضي، دعم ترامب بشكل علني الرئيس المصري السيسي، قائلا إن “لدى الجميع تظاهرات”. في الأيام القليلة الماضية، يبدو أن الصحف شبه الرسمية والموالية للنظام تحاول رد الجميل.
فقد سارعت الجريدة المصرية شبه الرسمية “الأهرام” لانتقاد الديمقراطيين الذين أطلقوا تصريحات ضد ترامب، وتبعتها في ذلك صحف أخرى. وقد اتهمت الصحيفة الرائجة الموالية للنظام “اليوم السابع” الحزب الديمقراطي، الذي دعم الانتفاضات الشعبية إبان الربيع العربي، بمحاولة الإطاحة بترامب بعد أن أدرك أنه عاجز عن الفوز في انتخابات نوفمبر.
استخدمت بعض وسائل الإعلام العربية أيضا الاحتجاجات لمهاجمة الديمقراطية والثقافة الأميركيتَين
كما أكدت صحيفة “الشرق الأوسط” أن السياسيين الديمقراطيين قد استغلوا الحادث لنشر الفوضى والاضطراب. وزعمت الصحيفة أن وسائل الإعلام المناهضة لترامب، فيما كانت تهاجم سياسة الفتح الاقتصادي “التدريجي” لترامب أثناء الإغلاق التام جراء فيروس كورونا، ها هي الآن تشجع الجماهير على النزول إلى الشوارع. في السياق عينه، هاجمت “الوطن” بشراسة خصم ترامب الديمقراطي جو بايدن، وقارنت رده بـ “إحدى دول العالم الثالث يسارع إلى ركوب الموجة الشعبية الغاضبة لدغدغة مشاعر الجمهور وتحقيق نقطة في سباق المنافسة الانتخابية القادمة”.
في رأي مخالف إلى حد ما، كتب الصحفي والمحلل المصري البارز عمرو الشوبكي في الصحيفة المستقلة “المصري اليوم” أن الاحتجاجات الحالية في الولايات المتحدة كشفت عن أزمة عميقة في الهيكل العام للنظام السياسي الأميركي. وأشار الشوبكي إلى أن ترامب حاول استغلال العنف لتعبئة قاعدته الانتخابية والحصول على الموارد اللازمة للفوز في نوفمبر، ثم أردف أن استراتيجية ترامب أخطأت في حساباتها وستكلّفه خسارة الانتخابات القادمة.
في المقابل، لم تُترجَم علاقة الأردن الحميمة مع الولايات المتحدة إلى مديح لرد فعل الإدارة الأميركية. وبينما ركزت الصحف الأردنية على رد ترامب على الاحتجاجات، استنتجت بشكل عام أنه سيؤدي على الأرجح إلى نتائج عكسية. اقترحت الجريدة الأردنية “الدستور” أن المحاكمة السريعة لقتلة جورج فلويد كان يمكن أن تهدئ الشوارع، لكن نهج ترامب العنيف سيفيد في نهاية المطاف المرشح الديمقراطي للرئاسة ونائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن. في هذا السياق، ذكرت الصحيفة الأردنية “الغد” أن ترامب بقي صامتا بشأن هذه القضية بينما انضم السياسيون الديمقراطيون، مثل إليزابيث وارن، إلى صفوف المتظاهرين في الشوارع.
أما الذين تربطهم علاقة أكثر برودة مع الولايات المتحدة، فقد كانت انتقاداتهم أكثر وضوحا. إذ أشار عضو اللجنة التنفيذية لـ”منظمة التحرير الفلسطينية” تيسير خالد إلى أنه من غير المرجح إعادة انتخاب ترامب، مستشهدا بعدم قدرة الرئيس على معالجة العواقب الاقتصادية لفيروس كورونا، بالإضافة إلى الخطاب المتهور والعنيف الذي أطلقه ضد المتظاهرين. وقد عبّرت الصحيفة الناطقة باللغة الإنكليزية “ديلي ستار“، المتّخذة مقرا لها في بيروت، عن شكوكها في فوز ترامب في نوفمبر بسبب طريقة تعامله مع الوضع الحالي.
ذكرت الجريدة الكويتية “القبس” على وجه التحديد التقاط صورة لترامب في كنيسة سانت جون الأسقفية التاريخية، واصفةً الحدث بمحاولة هزيلة لتعزيز صفوفه ودعم حملة إعادة انتخابه لعام 2020. ناقشت القناة القطرية “الجزيرة” أيضا تلك الزيارة، مشيرة إلى أنه مع فقدان ترامب للمزيد من دعم المسيحيين وزملائه الجمهوريين، أصبحت فرصه في الفوز في نوفمبر ضعيفة أكثر فأكثر.
في العراق، عرضت وسائل الإعلام توقعات مختلفة قليلا للانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2020، مع التركيز على الانقسام بحد ذاته. ناقشت “الجريدة الرسمية للعراق” “الصباح” العنصرية في الولايات المتحدة، لكنها انتقدت الديمقراطيين والجمهوريين لاعتبارها بأن الجانبين يستخدمان الاحتجاجات كوسيلة لتعزيز حملاتهما ومراكزهما على وسائل التواصل الاجتماعي. وأشارت الوسيلة الإعلامية العراقية أيضا إلى أن ترامب سيُلهي الناس على الأرجح بصور نهب وحرق المباني لكي يستمر الناخبون البيض بدعمه، مقارنة مع انتخابات 2016 عندما غيّر ترامب التوقعات قبل أيام فقط من الانتخابات.
أما القناة الأكثر تطرفا في موقفها، وهي قناة النظام الموالية لـ”حزب الله” وسوريا “الميادين“، فقد شددت على أن تهديد ترامب باستخدام الجيش وإطلاق النار على المتظاهرين قد كشف الوجه الحقيقي لأميركا. كما أشارت إلى أن قرار ترامب بوقف تمويل “منظمة الصحة العالمية” يفضح أبشع شكل من أشكال العنصرية، حيث سيؤدي وقف التمويل إلى شل العمليات في البلدان الأكثر فقرا، بخاصة في أفريقيا وأميركا الجنوبية. كما زعمت أن خطوة ترامب تهدف إلى جعل اليسار “كبش فداء” وتعبئة أنصار اليمين.
انتقاد الديمقراطية والثقافة الأميركيتَين
وبصرف النظر عن التنبؤات السياسية المحددة، فقد استخدمت بعض وسائل الإعلام العربية أيضا الاحتجاجات لمهاجمة الديمقراطية والثقافة الأميركيتَين، اللتَين حاولت الولايات المتحدة الترويج لهما في الشرق الأوسط. ففي بيانه الأخير حول الأحداث، وصف “الاتحاد العمالي لعلماء المسلمين” تمثال الحرية بأنه مثال على “النفاق الأميركي”.
كذلك اتهم الصحفي أحمد موسى الولايات المتحدة بالنفاق على القناة التلفزيونية “صدى البلد”، معلنا أن الولايات المتحدة هي “أسوأ دولة في العالم في ما يخص حقوق الإنسان”. وقد أبدى مقال في جريدة “جوردان تايمز” الناطقة باللغة الإنكليزية رأيا مشابها: “في كلتي الحالتين، لا تزال العلاقات العرقيّة في الولايات المتحدة أسوأ من أي مكان آخر تقريبا”.
وانتقدت وسائل الإعلام الجزائرية رد ترامب على الأزمة، مشيرة إلى أن الرئيس الأميركي رفض اتخاذ الإجراءات المناسبة. إذ انتقدت الصحيفة الناطقة باللغة الفرنسية في الجزائر “ليبرتي” قرار ترامب بنشر القوات الأميركية لإعادة فرض النظام ووصفت الفعل بأنه “مثير للسخرية”، معتبرة أنه سوف يشوّه صورة الولايات المتحدة كقوّة عالمية.
وأشارت “أخبار المغرب العالمية“، المتخذة مقرا لها في الرباط وواشنطن، إلى الولايات المتحدة على أنها “ديمقراطية انتقائية” في تقرير لها عن الوضع الراهن. وعلى غرار رد الإعلام الجزائري، زعمت “أخبار المغرب العالمية” أن الاحتجاجات شوّهت صورة الديمقراطية الأميركية وكشفت أن الولايات المتحدة ليست قوية كما يدعي ساستها.
وربط المتحدث باسم حركة “حماس” فوزي برهوم حادثة القتل بأحداث قريبة إلى موطنه؛ ذاكرا أن قتل الشاب الفلسطيني إياد الحلاق مؤخرا على يد جندي إسرائيلي يحاكي المشهد في الولايات المتحدة، حيث تعكس الحالتان ثقافة العنصرية التي بُنيت عليها الأجهزة الأمنية.
اتهم الإعلام العربي إيران وتركيا وقطر بلعب دور في التحريض على الفوضى بهدف الإطاحة بترامب في نوفمبر
كما هاجمت الصحيفة الفلسطينية “القدس” الثقافة الأميركية، واصفة كيف أن مقتل جورج فلويد مؤخرا أدى إلى إماطة اللثام للكشف عن “التناقضات المتأصلة في الثقافة الأميركية” وكيف أن الغضب الذي نشاهده في الشوارع هو تعبير عن “خيبة الأمل التراكمية في صفوف الأميركيين المهمّشين”.
وعلى الرغم من مديح الصحف المصرية للإدارة الأميركية، فقد جاءت تعليقاتها على المجتمع الأميركي أكثر انتقادا. وصفت الجريدة المصرية “المستقبل” الإحباط الظاهر في الشوارع كالجمر تحت الرماد، متهمة الإدارات الأميركية المتعاقبة باستخدام “كلمات منمّقة” حول المساواة والعدالة لم تكن صحيحة إلا جزئيا. وسلّطت صحيفة “النهار” اللبنانية الضوء على عدد كبير من حالات الظلم العنصري في أميركا، مبرزة كيف أن النظام القضائي الأميركي فشل في “مواكبة” الأمور. هذا واستشهدت صحيفة “البيان” الإماراتية بحالات أخرى من وحشية الشرطة وأشارت إلى أن مقتل جورج فلويد لم يكن حادثة معزولة.
ربط الاحتجاج بالتآمر
لكن بعض المعلّقين لم يروا الاحتجاجات على أنها قضية داخلية على الإطلاق. فقد اتهمت وسائل إعلام عربية متعددة الفاعلين الإقليميين بتأجيج التوترات لتعزيز مصالحهم وتشويه سمعة منافسيهم في المنطقة. إذ اتهم الصحفي المصري الموالي للنظام نشأت الديهي في برنامجه الحواري إعلام “الإخوان المسلمين” بتحفيز الاحتجاجات الأميركية من خلال الانضمام إليها ورفع ما يسمى “اللافتات المزيّفة”. كما اتهمت الصحيفة المصرية “الأهرام” الموالية للنظام “الإخوان المسلمين” بالتأثير على الاحتجاجات في الولايات المتحدة، إذ أطلقوا تسمية “الثورة” على التظاهرات.
من ناحية أخرى، اتهم الإعلام العربي إيران وتركيا وقطر بلعب دور في التحريض على الفوضى بهدف الإطاحة بترامب في نوفمبر. كما وُجِّهت أصابع الاتهام إلى “حزب الله” بالتحريض على العنف. وقال المحلل السياسي السعودي فهد ديباجي على تويتر إن “حزب الله” كان مسؤولا عن عمليات النهب والشغب من خلال عملية سرية.
كما وجّهت العديد من وسائل الإعلام العربية، المعروفة بانتقادها للمنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية خلال الربيع العربي، انتقادات يشوبها النفاق تجاه المنظمات غير الحكومية بسبب صمتها حيال الاحتجاجات. وقد أكدت عضو مجلس النواب المصري هالة أبو السعد أنه بينما تقوم منظمة “هيومن رايتس ووتش” بنشر معلومات كاذبة عن حالة حقوق الإنسان في مصر، إلا أنها ظلت صامتة بشأن الانتهاكات الحالية في الولايات المتحدة. وأضافت أن هذا الصمت يعني أن تقارير المنظمة متحيزة وغير شفافة. وفي المقابل، اعتبرت الصحيفة البحرينية “أخبار الخليج” أن صمت المنظمات غير الحكومية الأميركية يعني أن تصريحات الإدارة الأميركية حول الاحتجاجات موثوقة.
تعكس هذه العينات من ردود الفعل كيف تلعب الآراء الإقليمية حول الولايات المتحدة دورا هاما في تغطية قضية محليّة أميركية رئيسية. وبينما نشهد سيلا من الآراء حول الأحداث الجارية، يبقى التركيز في نواح كثيرة على المصالح الاستراتيجية والدبلوماسية والاقتصادية للولايات المتحدة في المنطقة قبل انتخابات نوفمبر القادمة.