صراع التماثيل* أ.د. غانم النجار
النشرة الدولية –
جلس ذلك الشايب العراقي في زمن مضى، متمتماً “شيلمهن، شيلمهن؟”، سألوه: ماذا تقصد؟، قال: “هاي صور وتماثيل ونصب صدام، إذا راح، شيلمهن؟”. كانت صوره تحاصر العين والزمان والمكان. لم يطل الوقت حتى صارت تلك التماثيل تتطاير كالريش في يوم عاصف. سقطت تماثيله الكبرى، وصوره ومسحت شعاراته التي كانت تملأ الجدران في كل مدينة وزقاق. وعرف الرجل الإجابة عن سؤاله “شيلمهن؟”.
عندما احتل صدام الكويت سعى لإزالة الرموز الكويتية وإحلال أصنامه، كانت المهمة سهلة، فلا تماثيل ولا نصب ولا شعارات تملأ الشوارع. فاندفعوا تكسيراً للعبارة الخالدة على قصر السيف “لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك”، لم يقرأوها، وإن قرأوها لم يستوعبوها. فاندفعوا تغييراً لأسماء الشوارع والمناطق والمستشفيات التي تحمل أسماء الأسرة الحاكمة، فضاحية عبدالله السالم صارت حي البصرة، ومنطقة سلوى أصبحت حي الخنساء، ومستشفى مبارك صار الفداء العظيم، وغير ذلك كثير. كما وضعوا جداريات ضخمة لصدام، أبرزها جدارية ضخمة له على الجدار الخارجي لمسجد الدولة، الذي غيروا اسمه لمسجد صدام.
أثناء الاحتلال العراقي حتى بيوت الناس الشخصية لم تسلم من الترميز، فعندما قررت زيارة بيتي الذي كان في مراحل تشييده الأخيرة وجدت الجنود الغزاة وقد اتخذوه موقعاً لهم، وعبثوا فيه أيما عبث، واستخدموا أبوابه الجديدة كخشب لطبخ الشاي وغير الشاي. كانت الشعارات والصور تملأ جدران البيت من الخارج إلى الغرف، وتحمل إشادة بالجيش العراقي، وتتوعد الأميركان بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتشيد بحكمة القائد العظيم. ما إن طلب مني مسؤول ثكنة بيتي المغادرة، لأن البيت الآن أصبح موقعاً عسكرياً، وطمأنني “لا تدير بال أستاذ، هذا بيتنا”، أجبته “فعلاً هذا بيتكم”، وغادرت انتظاراً لفجر آخر، ولتعود البيوت لأصحابها، وهكذا كان.
في أبريل ٢٠٠٣ كنت بالعراق في مهمة إنسانية دولية امتدت سنوات متقطعة، وعلى شط العرب، في البصرة، كانت تماثيل كبيرة من البرونز لجنود يقف وسطها تمثال أكبر منها تمثال لعدنان خيرالله، ابن خال صدام، ووزير الدفاع الذي مات بسقوط طائرة، ولا داعي للتكهن بمن قتله. ما إن سقط النظام حتى بدأ الفقراء وتجار الخردة، و”السلابة” تكسير تلك التماثيل وبيعها نحاساً، لم يكن تكسيراً سياسياً على أية حال. على مقربة منها كان تمثال صغير للشاعر المجدد بدر شاكر السياب، لم يمسسه أذى. التمثال كان قريباً من فرع بنك، حيث تقف قوة بريطانية. سألني ضابط إنكليزي: لماذا تم تدمير وتكسير التماثيل على الشط، ولم يمس أحد هذا التمثال؟ قلت له: التمثال لأحد شعراء العراق الكبار، وهو ابن المنطقة، من أبو الخصيب. استغرب معلقاً: “يبدو أن هناك الكثير مما يجب علينا أن نتعلمه”.
اجتثاث الماضي والقضاء على رموز النظام البائد، تماثيل، أو نصب تذكارية. عملية تقليدية، ينقلب نظام، ليعلن أنه يملك الحقيقة، كل الحقيقة، ويزيل كل ما سبقه فيحتكر الماضي والحاضر برؤيته.
ما يجري في أميركا الآن وفي أوروبا يتجاوز ذلك، فلم يحدث انقلاب أو تغيير نظام، ولكنه تطور طبيعي في إطار الصراع القيمي الذي سيأخذ مجراه. وهو ما سنشرحه لاحقاً.
نقلاً عن موقع “الجريدة” الكويتية