أهل مدن إميليو طراد ومحمد الرواس يخرجون إلى الشارع

النشرة الدولية –

ما يُمكن تخيّله يمكن أن يحدث في لحظة مُفاجئة. فالوجوه التي تبنّت تراكم الأقنعة على ملامحها كنياشين فخرية احتجبت تحتها، تتعرّى اليوم، لتفضح كل ما أصاب إنسانيتها من اهتراء. ولم تجئ هذه “الفضيحة” إلاّ من خلال ضرورة الالتزام بوضع قناع واحد هو طبي/ واق لا يشبه الأقنعة الماضية بأي شيء يُذكر، وفق ما نشرته الزميلة، ميموزا العراوي، في  صحيفة العرب

أقفلت مدن العالم تباعا بسبب الخوف من تفشي فايروس كورونا وبقي البشر في منازلهم لمدة ثلاثة أشهر متواصلة، يتعاركون مع العزلة، ويواجه معظمهم تصدّع وهم جبروت الإنسان المعاصر، ويتفرّج بعضهم الآخر على شبه انهيار الاقتصاد العالمي، القائم على استغلال الموارد البشرية والطبيعية على السواء، أمام انتكاسة أو احتمال انتكاسة الجهاز التنفسي البشري أمام الفايروس.

واليوم، بعد أن بدأت الحياة تعود شيئا فشيئا إلى تلك المدن مع تصاعد الخوف من عودة انتشار الوباء مع بداية فصل الخريف، نتأمل في بشر المدن وفي معظم وجوههم المقنعة بقناع هزيل يشي بما طرأ على ملامحهم الداخلية من تغيير.

وليس القناع الواقي هذا إلاّ مجرد دليل بصري على ما اختبروه خلال فترة الحجر من مشاعر شديدة الاختلاف والقوة. مشاعر ومواقف وجودية امتدت من الخوف والقلق والشك وصولا إلى الجشع والأنانية والعنصرية.

ساكنو تلك المدن العظيمة تاريخيا أو الطاغية سياسيا على مدن أخرى من العالم، يبدو معظمهم اليوم أكثر من يوم آخر يشبهون ما رسمه الفنان التشكيلي اللبناني محمد الرواس، والفنان اللبناني/ الأرجنتيني إميليو طراد في لوحاته.

الكائنات البشرية عند الفنان إميليو طراد تنتصب في وسط لوحاته ملوّحة برمال ماضية وغبار وقد امتصت ما استطاعت من ألوان باهتة. هي شخوص من هذا الزمن، ولكنها أيضا من الماضي. كائنات مُسمرّة في أرضها تنظر إلى المُشاهد نظرة واهية خالية من أي تعبير غير مُدركة خصوصية المكان الذي أحضره الفنان لها، لأنه مكان مفتوح يتشارك فيه كل البشر.

شخوص هي أقرب إلى الآلات البشرية التي تتم صناعتها اليوم على الرغم من هيئاتها الإنسانية التي استمدت “ملابسها” من عصور ذهبية فائتة.

ليست الأمكنة التي غرز فيها إميليو طراد شخوصه شبه البشرية خارج هذه المنظومة المُهجنة والغرائبية. فهي مزيج خصب من مشاهد وبنى هندسية من لوحات وجداريات لفناني النهضة الأوروبية وعمالقة الفن الكلاسيكي وملقحة بأجواء من الفن المعاصر على السواء.

يصوّر الفنان اللبناني/ الأرجنتيني الهيبة في أرجاء معظم لوحاته، ولكنها هيبة دون أي بريق، إذ قد تولى نخرها الزمن الميتافيزيقي (المُتمثل بالألوان الباهتة/ المُعتّقة) الذي خلافا للزمن الطبيعي لا يهتم بتراتبية الأيام بقدر

اهتمامه بإبراز سلطته الساحقة (أي سلطة الزمن الميتافيزيقي) على الكائن البشري الفاني، والذي مهما عظم هو أدنى من الكون، ولو أنه قد بدأ يعتبر نفسه خلافا لذلك قبل أن يحل موعد “لقائه” الساحق مع مخلوق مجهري قاهر أطلق عليه العلماء كوفيد – 19.

أما الفنان التشكيلي اللبناني محمد الرواس فالشخصيات النسائية التي لطالما صوّرها، لاسيما في آخر لوحاته  فهي اليوم حقيقية/ معاصرة أكثر من أي زمن مضى.

يتشارك الرواس مع طراد بدمجهما لعناصر من التاريخ الفني الأوروبي القديم والمعاصر في لوحاتهما. وكلاهما يعتمدان في تشكيل لوحاتهما على بنيان هندسي مُركّب بدقة، وهو ناتج من دون أي شك عن بحث بصري حثيث تسيطر عليه الذهنية والبرودة القاسية شبه اللاإنسانية.

فقد قدّم الفنان في معرضه الأخير في بيروت منذ أكثر من سنتين نساءه “المُشيّدة” كنصب بشرية فقيرة إنسانيا. حينها وجد الكثيرون أن لوحاته هذه تمثل “المرأة المعاصرة” لما تشير إليه من ملامح تحرّر، وقوة وكبرياء.

المُتمعن اليوم في ما وضعه الرواس في لوحاته تلك سيرى بأنه صوّر المرأة من مخيلته الذكورية الدافقة والصالحة لأن تكون امرأة لزمن “ما بعد كورونا”. فقد ظهرت في لوحاته كائنا عملاقا، ولكنه معزول وهش لا يمكن التعامل معه، لأنه لا يريد أن يُتعامل معه إلاّ من خلال عملية حسابية دقيقة، وهذا أمر لا يمكن تحقيقه إلاّ جزئيا حينما يتعلق الأمر بالعلاقات الإنسانية.

يبدو أن الفنان كان رائيا فيتخيّل هيئة امرأة ما بعد أزمة انتشار الوباء. وهي لا تقل برودة عن شخوص الفنان إميليو طراد. أراد محمد الرواس في لوحاته أن يصوّر المرأة كرمز للحرية

والقوة فجعلها تعرض مفاتنها إما من خلال ملابسها أو وضعية ظهورها كمجسم يفتقر إلى الحياة الحسية وإلى حضور الآخر/ الرجل الذي لن يكون أقل برودة منها إن فكّر أن يحضر إلى اللوحة.

في كل الأحوال ليس محمد الرواس معنيا بشكل مباشر بلقاء الرجل بالمرأة إلاّ من خلال تشييئ أحدهما للآخر. ومن خلال ما جسّده الفنان في لوحته يبدو واضحا أنهما، أي الرجل و المرأة، لن يلتقيا إلاّ ليحتدم الصراع بينهما، ربما تحت تأثير زمن فُقدت فيه كل الأوهام، كزمن ما بعد كورونا. هي اليوم أكثر من أي زمن مضى،  الحرب الباردة في لوحته. إنه الاستغناء عن الآخر، والشوق إلى مجهول قد يكون الآخر المُستغنى عنه. إنه إنذار بانفجار.. لن يحدث.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button