(قصة قصيرة) وبالأمل…تحقق المستحيل

https://scontent.famm6-1.fna.fbcdn.net/v/t39.30808-6/289588510_750040869464473_222088160289252269_n.jpg?_nc_cat=110&ccb=1-7&_nc_sid=730e14&_nc_eui2=AeFVvSV_rHTJ-A-3jkwjguM9T_qXIR2XhSxP-pchHZeFLNUbdMZOM89QW3IqSUb4KkwBqmv87ky5KOBMAa8K730r&_nc_ohc=sdNoRo-9a8wAX-0NYhn&_nc_ht=scontent.famm6-1.fna&oh=00_AT-gfd5OL7hhr5VUU7GMu766CbZkpIQ603g0tdBYBEML_A&oe=62C016B4

النشرة الدولية –

سارة العريضي –

كم هو إنجازٌ عظيمٌ أنهيتُ للتَّو من ترجمة الكتاب إنَّه فعلًا لعملٌ صعب لكنّي أحبُّ ما أقوم به ،فالقراءة كانت تجمعني كلَّما شعرتُ ان ذاتي مبعثرةٌ .فعملي هذا أثرى مخزوني الفكريّ جعلني أغوص وسط الحقائق ، ضاربة الأفكار السطحيَّة عرض الحائط .  فالكاتب خافيير مارياس صَدَق حين قال “المترجم كاتبٌ مميَز يملك فرصة ان يعيد كتابة الروائع بلغته”… وذكر الكاتب ألبرتو مانغويل في كتابه” فنّ القراءة “: “القارئ المثالي مترجم، اذ يمكنه ان يفتت النص الى قطع، ويزيل جلده، ويتعمق فيه حتى النخاع، ويتبع مسار كل شريان وعرق ومن ثم يشكل كائنا حيا جديدا” فأنا التي حولتُ بعض الكتب الجامدة والصَّماء إلى حروف تنبض إحساس وجمل تشعُّ حياة. لا أنكرُ أنَّ التحديق في الحاسوب كان يؤلم عيوني اليائسة أحيانًا، ولكن عملي هذا كان ينقل ذاتي الغارقة وسط بحر الذكريات إلى بر الخيال والإبداع.

وبينما كنت أهمُّ لإرساله وردني بريد إلكتروني مكتوب فيه:

“مساء الخير أُدعى آدم وأنا طبيب متخصص بالأعصاب، منذُ فترةٍ وجيزةٍ تواصل معي الدكتور سليم طبيب عائلتكم، وأخبرني عن حالتك الصحية، لذا أتمنى منكِ الحضور غدًا إلى العيادة للغوصِ في التفاصيل، لاستبانة العلاجات المحتملة وبالتَّالي يمكنكِ السَّير نحو طريق التَّعافي ،وسأكون بانتظارك غدًا.”

بعدما أنهيتُ القراءة بدأتُ أضحك بطريقة جنونيَّة، فبعضُ “القهقهات” ما هي إلا آهات ممزوجة بالكآبة تعبِّر عن انكسارِ الروح. أُشفى! كم هو مغفَّل، يظنُ أنَّ بعض الأدوية أو بعض العمليات الجراحيَّة سترمم ذاتي الممزقة إربًا أم  بعض النصائح السَّخيفة سترفع ذاتي القاطنة في قعر الذكريات السوداويَّة! كلَّ ليلة يزورني شبح الذكريات ويعيد أحداث ذاك اليوم المشؤوم ، فعندها يمكنني أن أشعر بكُّل ما مررت به، وكأنَّما كِلاَ ذكرياتي والأحاسيس  ينتقمون مني ويسكبون كل الآلام والأوجاع داخل عقلي وقلبي …كيف لا يستهزؤون  بي ؟ فأنا من أوصلتُ ذاتي  إلى هذه الحالة كم كنت غبيَّةٌ وساذجةٌ؛ حصلت تلك الأحداث من حوالي أربعةُ سنواتٍ وكأنَّها البارحة. كنتُ حينها من سيِّدات المجتمع الرَّاقي صاحبات الطّبقة المخمليَّة ، كنتُ وسط  نساء  يدعين الفرح ، يعشقنَ المظاهر ،ويقدِّسن “الماركات” ، إنهن فارغات المحتوى  يلبسنَ قشر الحضارة والروح خاوية جاهليَّة .أما رجالهن  فحدِّث ولا حرج،  يعشقونَ المال،  يقدِّسون الشهرة ، ويهتمون بالمناصب. يغدقون على نسائهم بالحُلِيّ والجواهر والثياب  الثمينة لسببٍ واحد؛ هو المغالاة بهنَّ وكأنَّهن سلع ويمكن استبدالهن أو التخلي عنهن  بسهولةٍ بالغةٍ متى ظهرت عليهن علامات الشيخوخة أو المرض . عندما كنتُ وسط تلك الجلبة لم أكن أَعي سطحيَّة الأشخاص الَّتي كانت تحوط بي، فالثياب الثَّمينة كانت تغريني والحُلِيّ كالألماس، اللؤلؤ النادر، والأحجار الكريمة كانت تستحذوني.

كان يُنظر إلينا على أننا الثنائي المثالي “أكرم وأسيل “، كنا فعلًا كذلك فالحبُّ والاحترام كانا باديان في تصرفاته ومعاملته لي. وبما أنَّه كان مليونيرًا كان يغدقُ عليَّ مالًا وفيرًا ويصٌّر على أن أكون برفقته أينما ذهب مغالاةً واعتزازًا بي أمام منافسيه من الشركات الأخرى، أصدقاءه أقرباءه، ومجتمعه المزيف . كانت الاحتفالات والسهرات والتجمعات تستحوذ على غالبية أوقاتنا، لهذا كانت الخلافات شبه معدومة بيننا!  لطالما كنت أؤمن أن خلف كل محنه واقعة نعمة مخفية! ولكن كيف

لذلك الحادث المنحوس أن يكون خيرًا؟

ذاك اليوم جاء سائق أكرم وقال:” السيد أكرم يريدك أن ترتدي أبهى الثياب وأفخر أنواع الحُلِيّ ،فالليلة سيقيم حفلًا ببيروت بمناسبة ذكرى زواجكما الاولى.” فشعرتُ حينها بالفرح يدغدغ  قلبي، أحسستُ بطعم السعادة  الزاخرة بالحُّب. وخاطبتُ نفسي قائلةً:”مكافاة لسليم سأكون الليلة مثل ممثِّلات هوليوود “، فارتديتُ آنذاك فستانًا طويلًا من المخمل الخمريَّ ،انتعلتُ حذاء بحزام كاحل مرصع والكعب عالً رفيع . ووضعت معطف أبيض من الفراء الطبيعيّ النادر ،ثمَّ تزينت بحُلِي من الألماس مرصَّعة بالياقوت الأحمر. بعدما أنهيت من التبرُّج نظرتُ إلى المرآة مذهولةٌ،  أيعقل أن أكون قد تغيرتُ لهذا الحد؟ فرأيتُ امرأة متوسطة القامة ممشوقة الجسد، ذات شعر كستنائيّ حريريّ طويل،أما الوجه فهو أسيلٌ  تكسوه البشاشة والوقار ،أما المعاني  حادقة جذابه لا بل آسرة ولكنَّ البراءة باتت متوارية. العينان عسليتان واسعتان تتوقدان ذكاء مرسومتان بالكحل العربي، الرموش على ضفاف العينين طويلة، الانف صغير مستقيم، الشفتان ممتلئتان…. فقلت لنفسي بفخر يحق لسليم ان يفتخر بي فأنا أملك جمالًا ثقافةً وفكرًا يجعلان من بتعرف عليَّ يذوب عشقًا. وأنا أقيم هذا الحوار مع نفسي رأيت كريم متوجها باتجاهي قائلا :”صدق المتنبي حين قال

فريدةُ أنت

لا تشبهينَ أحداً

تشبهينَ كل الجمال الذي يلوّن الأرض

تشبهينَ أشياءً لا يمكن ان تُرى

تشبهينَ الاحلام والرؤى”

قاطعته بضحكة مغناج قائلة هيا بنا فالضيوف بالانتظار! ما إن اجتزنا نصف الطريق نحو بيروت حتي بدأ السَّائق بالصراخ “المكابح لا تعمل، إنَّها لا تعمل” فشعرتُ للمرَّة الأولى بالاستسلام نظرتُ إلى جانبي فلم أجد كريم، وما هي إلا ثوانيٍ حتى رأيتُ لونًا أبيض..

فتحتُ عيناي  ورأيتُ ذاتي ممدَّدة على السَّرير في المشفى ، فشعرتُ بالخوف يسير وسط عروقي متجهًا نحو قلبي.  فعندها نظرت الى يديَّ كانتا ممتلئتان بالندوب والجروح ثمَّ  وبدأتُ أتحسَّس وجهي وأهمسُ ” أنا بخير، لا لا لست بخير “ثمَّ بدأت بالصراخ :” كريم ، أمي”  والرُّعب ينتهشني حيَّة . جاءت والدتي راكضة قائلة:” يا أسيل كنت على وشك الموت قلقًا عليك!” .قاطعتها “أين كريم”  فرأيت الحزن في عينيها والشقاء قد استحوذ وجهها وأردفت :”  حسنًا  أعلم أنَّك قوية وجدًا تُؤمنينَ بالأقدار وتَعلمين أنَّ وراء كل  مصيبة حكمة…أسيل  الحادث كان قاسيًا بعض الشيء وكما قال الطبيب لقد تأذى عامودك الفقري ، بالتالي الآن تعانين من الشلل السفلي المؤقت . وعندما علم كريم بذلك طلب مني أن  أهتم بك وهو سيتكفَّل بعلاجك كاملًا ،لن يتمكن من المكوث معك فلديه عمل يقوم به .” في تلك اللَّحظة رفعتُ يدي وصفعتُ وجهي بقوَّة أردتُ أن أتأكد انَّني وسط كابوس عابر، ولكّن بعدها شعرتُ بالآلام وسط روحي ،كيف لي أن أتحمَّل هاتان المصيبتان. عندها تذوقت طعم الخذلان  وأيقنت أنَّ كريم بعيد كل البعد عن الرجولة، لا يعرف معنى الوفاء والتضحية …بات القلبُ عضلةٌ عاديَّة  ،وروحي باتت جرداءاً خاوية ،أما جسديًا فلم أعد أقوى على الحركة حتى إشعار أخر . بعد كل هذه المآسي وبعد سنة من الحادث، أصبحنا أنا وكريم مطلقان شرعيًا . يقال “على قدر حب المرأة يكون انتقامها!” فأنا لم أنتقم من أحد ولم أظهر ضعفي لأحد ، فالصراع كان قائمًا وسط ذاتي لكن  وبعد ثلاثة أشهر من الحادث بدأتُ أعمل من المنزل مع  شركة أجنبيَّه أُترجم كتب وروايات ،وأجني مالًا وفيرًا ولكن المال لا يصنع السعادة …والآن يطلب مني الدكتور آدم أن اتحلي ببعض الأمل وأن أذهب الى عيادته غدًا؟

لم أتذوق طعم النَّوم تلك اللَّيلة كنتُ متأكدَّة أنَّ الأمل معدوم واننَّي لن أتمكن من السَّير مجددًا ،لكن من يقبع في نفسه اليأس يتعلَّق ولو بأملٍ وهميّ ! وفي اليوم الثاني ذهبتُ ووالدتي لزيارته ،وعند الوصول فوجئتُ بجمال وجهه وسحر إبتسامته فاستقبلني قائلًا ،”كم عمرك” فجاوبته والثَّغر مبتسمٌ ” اثنان وثلاثون عامًا” ، أردف قائلا “وجهك كالملاك ،ولكن ملاك عجوز ههه الوجه مرآة الروح ،أعدك أنني  سأساعدكِ … فقاطعته مخاطبة إياه ” إحذر فإعطاء أمل موهوم أشبه بالنِّفاق، بجانب ذلك أنا لا أؤمن بالكلام وإنَّما بالنتائج ، فجوابه كان كفيلًا أن أسير وإياه طريق التعافي حينما قال:

” *سيكون طريق التعافي مليء بالأشواك؛ لذا علاجك يحتاج صبرا طويلًا وأملًا أكثر قد يستغرق علاجك سنتين او اكثر. البداية ستكون صعبة ولكن عليك المحاولة فالحياة عبارة عن فرص والعاقل هو الذي يستفيد من منح الحياة.*

*إذا أردت تحسين حالتك الصحية الظاهريَّة ،يتحتَّم عليك أولًا تطوير عالمك الداخلي ؛عبر البدء باستبدال الأفكار السيئة بأخرى إيجابية.

*  الأمل هو السلاح الفتاك بوجه كل اللَّحظات الصَّعبة ، الإيمان بالخالق أولا وبنفسك وهدفك تاليًا سيساعدانك لتجاوز كل الصعاب.”

مرت سنتين ونحن على تواصل دائم أصبح هو ملاكي الحارس  فهو الذي استطاع أن يبني كائنًا جديدًا فجدَّد فيَّ ربيع الحياة، أصبحتُ أنظر إلى الحياة ببصيرتي لا ببصري ،علمتُ أنَّ الحياة كنز؛  المظاهر خادعة زائلة والحقيقة  خالدة وثابتة . أيقنتُ أنَّ الحياة للأقوياء لأصحاب الضمائر الحيَّة، وإنَّ المحبَّة سلام والشفاء الروحي أقدس  من الشفاء الجسدي ، تأكدتُ أنَّ الأحبة هم السند والاهل هم القدوة. وتحققتُ أنَّ وراء كل حدث سيَّء حكمةٌ وغاية … بينما كنتُ أفكرُ بآدم ، سمعت والدتي تناديني: “أسيل  تعالي هناك رسالةٌ  لكِ “،فنهضتُ من عن السرير أمسكتُ العكاز وذهبتُ لغرفة المعيشة ،وبدأتُ بقراءتها:

عزيزتي أسيل:

عندما رأيتُكِ للمرَّة الأولى كنتُ متأكّد أنَّك محاربةٌ شجاعة، فطريق التعافي لم تكن سهلة ولكنَّك كنتِ “كزهرة اللوتس” فبعد كل معاناتك الموحلة ارتقيتِ وطورتِ ذاتكِ وأصبحتِ ناقيه كاللوتس تمامًا. لا أعلم لماذا تفوهتُ بتلك الكلمات آنذاك ، تلك الكلمات كانت تترجم قلبي فالقلب يعلم بالغيب ربَّما كنتُ أرغب برؤية حقيقتُك الكامنة وراء ذاك الحزن. وكلَّما شعرت انَّك تتحسنين كلما شعرت بالفرح والغبطة اكثر… اسمعي منذ أوَّل لقاء بيننا شعرتُ أنَّك فريدةٌ وكنت متأكد أنك ستحيين تلك الفتاة الحالمة البريئة، الفاتنة ،القابعة بداخلك. ولكن لم أكن أعي أنَّ تحريرَ ذاتكُ أيقظ  ذاك القلب الكامن وجعله يذوب عشقًا ،بشفائك أنتِ اكتشفتُ جوهر ذاتي وتأكدتُ أنَّك تشبهين  ذاتي إلى حدٍ كبير ،كنتُ أحاول أن أوحي  لك بعشقي ولكن لا حياة لمن تنادي ههههة.  قلت لكِ مرارًا أنَّك مذهلة، ومحظوظ من ينبض له قلبكِ، تتذكرين الأحاديث الطويلة ، وطلباتي الدائمة لرؤيتكِ ولم  تحركي ساكنًا ! باختصار أحبك جدًا وجدًا!”

آدم

بعدما أنهيتُ قراءة الرّسالة شعرتُ أنَّ حبر هذه الكلمات تحوَّل الى كمٍّ هائل من الحُّب الذي سُكب في القلب مباشرةً وأحياه. تذكرتُ كافكا حين قال:” اني أغلق عيني في تلك الأعماق ،فلا أجد نفسي الا وقد أبحرت فيك!” فمنذ اليوم الأول كنت وما تزال غايتي ملاكي الحارس..

وبينما كنت غارقة في فضاء العشق سمعتُ صوت آدم خلفي فما إن نظرتُ إليه حتى رأيتُه راكعًا في يده خاتما وصاح قائلًا أسيل “هل  تقبلين بي” وقبل أن يُنهي كلامه تركتُ عكَّازي من يديّ ومشيتُ نحوه قائلةً” أنا لكَ دائمًا وابدًا”

زر الذهاب إلى الأعلى