أي خصوصية للدولرة في لبنان؟ بين الدخول الحرّ والخروج الإجباري* د. سهام رزق الله

النشرة الدولية –

إقتصادياً، يتمّ تصنيف الدولرة على أساس التمييز المزدوج بين «الدولرة الكاملة» و»الدولرة الجزئية» من جهة، و»الدولرة الرسمية بفعل القانون» و»الدولرة غير القانونية الناتجة من خيار حرّ للقطاع الخاص» من جهة أخرى.

Image may contain: 1 person, smiling, close-up

الدولرة الجزئية تتميّز بظاهرة «التعدّدية النقدية»، وهي تتعلّق بالاقتصادات، حيث يتمّ تداول العملات الأجنبية جنبًا إلى جنب مع العملة المحلية. وفي هذه الحال يبقى للبلاد مصرف مركزي يطبع العملة الوطنية، فيما السوق يستخدم العملتين في آن معاً، كما هي الحال في لبنان، منذ أن إختار القطاع الخاص اللبناني في الثمانينات اللجوء الى دولرة جزئية ولو بنسبة مرتفعة.

أما خيار اللجوء الى الدولرة، فيكون عادة نتيجة تضخم هائل وانهيار لسعر صرف العملة الوطنية، يُسقطان من العملة الوطنية وظائفها الثلاث الأساسية:

أولاً، كوحدة حساب تسمح بتقييم كل منتج وتسعيره. ثانياً، كوسيط تجاري يسمح بتسديد الفواتير الناتجة من كل عملية تجارية. وثالثاً، كحافظة لقيمة النقد وقدرته الشرائية، ما يسمح بتخزين العملة الوطنية لاستخدام لاحق، وهي الميزة الأكثر عرضة للخسارة بفعل التضخّم من جهة، وتدهور سعر الصرف من جهة أخرى…

وعند افتقاد استقرار القدرة الشرائية للعملة الوطنية يصبح تلقائياً من الصعب الاستمرار في التسعير بها في سوق حرّة، وخصوصاً اذا كان معتمداً في شكل أساسي على الاستيراد، لتأمين حاجاته الاستهلاكية.. وفي المرحلة الثالثة وبغية تفادي تقلّبات سعر الصرف والسجالات حول التسعير وفق معدلاته، يصبح السوق ميالاً تلقائياً الى تفضيل الدفع بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً، وإجمالاً الدولار الأميركي… بذلك تفقد العملة الوطنية دورها الثلاثي الركائز…

 

فيما تشير الدولرة الكاملة إلى الاقتصادات التي تتخلّى عن عملتها الوطنية، وبالتالي، لا يعود من مبرّر لوجود مصرف مركزي فيها، يعني لا مرجعية مصرف مركزي للمصارف ولا مموّل أخير، لأنّ البلاد تصبح فاقدة للاستقلالية النقدية وتابعة نقدياً للبلاد التي تستخدم عملتها، فيسود فيها الدولار علامة حصرية للعملة.

 

وقد أظهرت مجمل الدراسات حول الدولرة منذ السبعينات والثمانينات، أنّ الدولرة في الاقتصادات النامية ترافقت مع عملية تفكّك نقدي، كان التضخم المفرط هو الشكل الأكثر شيوعاً. وتميل التحليلات الأخيرة إلى التركيز على قضية الدولرة الكاملة، والتي لا يتمّ تفسيرها على أنّها تمحو المخاوف المتعلقة بالتضخم المفرط.

 

وتتعارض الدولرة بحكم الواقع، أو غير الرسمية، مع الدولرة القانونية أو الرسمية.. إذ تتوافق الدولرة الواقعية مع الوضع الذي يستخدم فيه العملاء الاقتصاديون العملة الأجنبية، على رغم من عدم وجود غطاء قانوني. إنّه خيار عفوي يأتي من اختيار القطاع الخاص.

 

فيما تتميّز الدولرة الرسمية بحكم القانون، مع الوضع الذي يتمّ فيه الاعتراف رسميًا باستخدام العملات الأجنبية من قِبل السلطات.. إنّها دولرة مؤسسية تعكس اختيار السلطات العامة.

 

ولكن يُلاحظ عادة، أنّ معظم التحليلات لا تحترم هذا التمييز. هناك اتجاه يتمّ الخلط فيه عموماً بين الدولرة الجزئية والدولرة الواقعية والدولرة الكاملة مع الدولرة الرسمية.

 

من هناك، نصل إلى مجالين متميزين:

 

– الأول يتعلق بالدولرة الفعلية والجزئية، حيث يتمّ استيعاب هذه الأخيرة في عملية استبدال العملة الوطنية بعملة أجنبية واستخدام الاثنتين معاً في السوق. وهنالك نماذج عدة للاستبدال بأدوات مختلفة. فيما يركّز الثاني على الدولرة الرسمية والكاملة، التي تفتح مجالات واسعة من البحث.

 

الدولرة غير الرسمية تتوافق مع الدول التي يمتلك سكانها جزءًا كبيرًا من ثروتهم بالعملة الأجنبية. واجمالاً يتبلور ذلك من خلال معدّل دولرة الودائع في شكل أساسي، ولو في اغتياب الامتيازات القانونية للعملة الوطنية. وغالباً ما تتصل هذه الدولرة مع ارتفاع التضخم. كذلك، فإنّ المشكلات السياسية والحروب الأهلية هي من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى الدولرة (لبنان خلال الثمانينات). فإما استبدال الأموال عند استخدام الدولار كوحدة حساب ووسيط في التبادل، أو استبدال الأصول عندما يشكّل الدولار مخزن القيمة.

 

هناك نوعان من الدولرة الرسمية يمكن تحديدهما من جانب واحد، عن طريق استبدال عملة وطنية بعملة أجنبية بحتة. وببساطة من خلال منح هذه الأخيرة سلطة تحرير غير محدودة في كل أنحاء البلاد، أو اختفاء العملة المحلية أو اختزالها بأدوار محدّدة (دفع الضرائب، رواتب القطاع العام، رسوم المعاملات الرسمية…)

 

في تعميق التمييز المزدوج بين: الدولار الجزئي والدولار الكامل من جهة؛ ومن ناحية أخرى، الدولرة بحكم الواقع والدولرة (الرسمية) القانونية، من المهم الإشارة إلى معيارين للتمييز:

 

المعيار الأول، يتعلّق بدرجة تغلغل معدل الدولرة في الممارسات النقدية للبلد المعني .فيما المعيار الثاني يتعلّق بدرجة إضفاء الطابع الرسمي أو المأسسة على دولرة الاقتصاد.

 

يؤدي الجمع بين معياري التمايز إلى أربعة أنظمة قياسية للدولرة.

 

ويُلاحظ أنّ الدولرة في لبنان أكثر تشابهًا مع الدولرة الجزئية والقانونية: التي تقابل المربع A2 في الجدول أعلاه. في نظام A2 ، تأخذ السلطات علماً بالممارسات الدولارية وتشرّع بعضها، مع الحفاظ على وحدة الحساب الوطنية والالتزام بدفع الضرائب في هذه الوحدة من الحساب، ولكن بالسماح بإنشاء من مصرف لبنان، غرفة مقاصة للشيكات بالدولار الأميركي.

 

من أبرز مفارقات سياسة النقد والقطع اللبنانية، أنّ الأسباب نفسها التي أدخلت الدولرة الى لبنان تدفع بها اليوم خارجاً!! التضخم الهائل وتدهور سعر الصرف وفقدان العملة الوطنية وظائفها من حيث التسعير والتبادل والادخار الذي يحافظ على القدرة الشرائية، فضلاً عن الدين العام وتدهور وضع المالية العامة وتراجع ميزان المدفوعات والطلب الزائد على الدولار الأميركي، التي أدّت في الثمانينات الى الهروب من تآكل القدرة الشرائية لليرة اللبنانية واختيار الدولار، وتقبلها حينها الجهاز المصرفي اللبناني… هي نفسها اليوم تتسبّب بموجة معاكسة، يحاول من خلالها النظام المصرفي فرض استخدام الليرة لا بل «لبننة» الدولار المودع لديها!

 

المصرف المركزي والمصارف اللبنانية تقبّلت في الثمانينات خيار القطاع الخاص اللبناني باعتماد الدولرة (خصوصاً الودائع) كخيار حرّ، ولو كان غير معلن رسمياً، الى جانب العملة الوطنية. واقتصادياً، كان من الطبيعي في ظلّ اعتماد الدولار بالتوازي مع الليرة اللبنانية، أن يختار مصرف لبنان سياسة ربط سعر الصرف، بغية المحافظة على استقرار سعر صرف العملة الوطنية إزاء العملة الأجنبية المستخدمة بالتوازي معها في السوق…

 

بعد أكثر من 22 عاماً على هذا «الستاتيكو»، وبعد أن تخطّت دولرة الودائع 76 % وتمدّدت الدولرة الى كل النظام المصرفي لتشكّل حصة الأسد من التسليفات وأكثر من ثلث الدين العام، ومع تدهور وضع المالية العامة وتدهور ميزان المدفوعات والموجودات الخارجية للجهاز المصرفي، وبالتالي ضعف احتياطي المصرف المركزي بالدولار، تقلّصت إمكانية استمرار تدخّل مصرف لبنان لبيع الدولار مقابل الطلب المُتزايد عليه في السوق… وقد انقلبت موازين الوضع مع تزايد معاناة لبنان منذ عام 2011 من عجز في ميزان المدفوعات… ما عدا العام 2016 الذي حاولت فيه «الهندسات المالية» تعزيز استقطاب الدولار وزيادة احتياطي المصرف المركزي وطلب زيادة رساميل المصارف، التي تزايد انكشافها بالدولار، إن كان ذلك تجاه الدولة عبر الاكتتاب بـ»اليوروبوند» أو تجاه المصرف المركزي عبر شراء شهادات الايداع منه بالدولار.

 

وإذ بدأ يُلاحَظ منذ عام 1993 فصاعداً، تنامي فجوة متزايدة بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي، إلّا أنّ اشتداد عمقها برز منذ العام 2011 مع اتخاذ الموجودات منحى تدهورياً، فيما بقيت دولرة الودائع في ارتفاع، ولم تشفع فيها سياسة تثبيت سعر الصرف منذ العام 1997 التي كان يفترض أن تطمئن الناس الى استقرار سعر العملة الوطنية، وتشجعهم على اختيارها لودائعها.. يبدو أنّ الجمهور بقي يعتبر تدخّل المصرف المركزي بحكم التثبيت الدائم وليس الثبات الفعلي، مما جعل الجميع متمسكاً بودائعه بالدولار، على رغم من فارق معدّل الفائدة بينها وبين الودائع بالليرة، الأعلى طبعاً، بحكم المخاطرة التي تحملها نسبة الى الدولار كعملة دولية.. لا بل ترافق معدل دولرة الودائع المرتفع مع ارتفاع دولرة التسليفات المصرفية، وأكثر من ذلك دولرة جزء كبير من الدين العام، ما يجعل «الخروج من الدولرة» وفرض تحويل كل هذه العقود الى الليرة اللبنانية مسألة جداً معقّدة، وتحتاج هذا الكمّ المتضارب من دراسة الخسائر…

 

ووسط هذه التعقيدات في تشابك العناصر المؤثرة في الدولرة في لبنان، هل من جدول مقارنة بين الفوائد والتكاليف الناتجة من الدولرة وسبل الخروج منها لكل من الأفرقاء المعنيين؟

 

 

أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى