السفيرة شيا: ليس في لبنان!* مرح البقاعي

النشرة الدولية –

لا أستغرب ما تعرّضت له سفيرة الولايات المتحدة  إلى لبنان، دوروثي ك. شيا، من هجوم قضائي وإعلامي حين أدلت بتصريحاتها الأخيرة عن حال لبنان تحت سطوة حزب الله. وأتفق مع السفيرة في استهجانها أن يحدث هذا الأمر في لبنان، البلد العربي المؤسِّس والراعي للحريات الإعلامية والحق في التعبير، منذ عقود طويلة، بينما يُحكم الآن للأسف بسلاح وميليشيات حزب الله، في ظل غياب تام للدولة.

صدقت السفيرة الأميركية حين وصفت ردود الفعل على تصريحاتها التي أطلقها حزب الله، ومن دار في فلكه، بأنها ضرب من “الجنون” وأنها “يمكن أن تحدث في إيران لكن ليس في لبنان”. إثر إصدار قاضٍ، في مدينة صور جنوب لبنان، قرارا يمنع وسائل الإعلام من لقاء السفيرة أو نشر تصريحات لها لمدة عام، مدافعا عن قراره بالقول “إن السفيرة تناولت أحد الأحزاب الذي يتمتّع بقاعدة شعبية لا يُستهان بها وحمّلته المسؤولية عما وصلت إليه الأوضاع في لبنان”.

ويستدعي وزير الخارجية اللبنانية ناصيف يوسف السفيرة شيا أعقاب ما أدلت به على تلفزيون الحدث – العربية أنها “تشعر بقلق كبير حيال دور حزب الله المصنّف منظمة إرهابية حيث عناصره يشغلون وزارات في الحكومة اللبنانية الحالية والسابقة”، وأردفت في اتهام صريح “البعض يصفون الحال على أنه دولة داخل الدولة”.

هذا وتصنّف واشنطن حزب الله المدعوم مباشرة من الولي الفقيه في إيران منظمة إرهابية، بينما يتّهمه ثوار 17 أكتوبر بالتحكّم بمفاصل الحياة السياسية بقوة السلاح، وجرّ لبنان بأسره إلى الهاوية.

يشهد لبنان اليوم ردة إلى الأجواء التي كانت عليها حال الحريات ومؤسسات الدولة خلال سيطرة قوات الردع السورية على مفاصل البلد، بمؤسساته العامة والخاصة، وكان لهيمنة النظام السوري على القرار اللبناني، قد أوقع لبنان أسيرا لمنطق ونهج حزب الله، جاعلا منه الوسيط الأمثل للتأثير على صناعة القرار إثر انسحاب الأجهزة السورية، وبما يتناسب مع مصالح وبروتوكولات الولي الفقيه في البلدين المنهكين.

ما حدث مع السفيرة الأميركية في لبنان 2020، كان قد حدث بصورة مشابهة مع زميل لها هو السفير الأميركي في دمشق، ثيودور قطوف، في العام 2002، وكنت أنا الشاهد على الحدث في ذلك الوقت.

سأروي لكم القصة بتمامها، عسى أن تبرّد صدر السفيرة، حين تكتشف أنها ليست وحدها التي تعرّضت لهذا الصلف والهبل الدبلوماسي، سواء من القاضي المغلوب على أمره، كونه يمثّل جهازا يقع جغرافيا في “مقاطعة” حزب الله في الجنوب اللبناني، أو من وزير الخارجية، الذي لا يملك إلا أن يكون صورة مطابقة لنظيره وليد المعلم في دمشق. فكلا العاصمتين تقعان اليوم في مصيدة ملالي طهران وأدواتهم من فئة متطرفي حزب الله والميليشيات المستنسخة منه.

ففي الجارة سوريا، وحين وصل بشار الأسد إلى رئاستها عام 2000 بتعديل دستوري للمادة التي تحدد عمر رئيس الدولة، حتى يتسنى له اعتلاء المنصب وهو في عمر 34 عاما فقط، تطلّع السوريون إلى التغيير مع رحيل حافظ الأسد، رغم امتعاضهم من أسلوب التوريث غير المسبوق، الذي تمّ بواسطته انتقال السلطة من الأب المتوفى إلى الابن في بلد نظامه جمهوري غير وراثي.

بشار الأسد قدّم خطابا مغايرا عند استلامه السلطة، أعرب فيه عن رغبته في إطلاق الحريات العامة، والسماح بتشكيل الجمعيات والأحزاب السياسية دونما عوائق، ما حدا بمثقفين ونشطاء سوريين إلى التجاوب مع هذا الخطاب الجديد. وانطلقت بوادر ربيع دمشق لإرساء قواعد للمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية.

كنت واحدة ممن أرادوا المساهمة في تهيئة سوريا للانفتاح على العالم من جديد. وبحكم اختصاصي تقدّمت بمشروع للقناة الفضائية السورية لإنتاج برنامج حواري سياسي من واشنطن، يكون اللبنة الأولى لتنسيق إعلامي متصل ومتكافئ بين سوريا والولايات المتحدة. نال المشروع موافقة وزارة الإعلام دون عوائق وباشرت بإعداد وتقديم حلقات “عبر الأطلسي” تبث من العاصمة الأميركية واشنطن.

في العام 2002، وتحديدا قبيل أشهر من دخول الجيش الأميركي العاصمة العراقية بغداد، كنت في دمشق مع وفد إعلامي أميركي يزور العاصمة والتقيت حينها السفير الأميركي، ثيودور قطوف، واتفقنا أن يكون ضيفي في حلقة تسجّل في مقرّ إقامته في دمشق لنستطلع شروحاته والسيناريوهات المحتملة، بينما كانت الولايات المتحدة تهيئ العالم لفكرة دخولها العراق.

خلال الحوار سألته عن قرار مجلس الأمن رقم 1441 الذي صوتت عليه سوريا بالإيجاب، ومنح بالتالي الشرعية لدخول الجيش الأميركي بغداد. وكان وزير الخارجية السوري آنذاك فاروق الشرع قد أعلن على وسائل الإعلام السورية “أن تصويته جاء إثر تطمينات أميركية بأن الجيش الأميركي لن يدخل العراق، إذا ما تمّ تمرير القانون في الأمم المتحدة”، بينما أكد السفير قطوف في حواري التلفزيوني معه أن بلاده لم تعط سوريا أي “تطمينات”، وأن تصويت ممثل سوريا جاء بقرار مستقل من دولته.

في اليوم التالي من بث البرنامج استُدعي السفير قطوف إلى وزارة الخارجية السورية والتقى وليد المعلم الذي أبدى استياء الحكومة السورية من تصريح السفير الأميركي، الذي “كذّب” فيه أقوال الوزير الشرع، في محاولة لتحميل سوريا مسؤولية الحرب على العراق.

كما أُخبر السفير الأميركي أنه أصبح شخصية غير مرغوب بها في سوريا، فغادر خلال أيام تاركا كرسي السفير شاغرا، ولم يعد بعدها إلى سوريا أبدا. أما أنا، فمُنعت من دخول بلدي منذ ذلك التاريخ، وتم تسريح مدير الإذاعة والتلفزيون إلى جانب مدير الفضائية السورية و18 موظفا شاركوا في برنامجي الذي أوقف بثه وأُتلفت أشرطة حلقاته كافة، فيما أطلقت عليه الصحافة “مجزرة الإعلام السوري”.

في كل مرة زرت دمشق ومرسم الفنان التشكيلي الصديق فاتح المدرس هناك، كنت أقرأ العبارة التي كتبها بخط يده على أعلى جدار المرسم وكأني أقرأها للمرة الأولى “بإمكان رجل واحد أن يخرج أمة من التاريخ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى