قانون “قيصر” والعقوبات على إيران يستنزفان مالية لبنان* سوسن مهنا
النشرة الدولية –
كأن لبنان يسير بعكس التاريخ وحتى الجغرافيا، البلد الذي يعتبر صلة الوصل بين الشرق والغرب، وبعدما كان ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، يتحول اليوم إلى ساحة صراع بين نموذجين اقتصاديين يمثّلان توجهات الشرق والغرب.
طريق الحرير
بدأت صناعة الحرير في الصين قبل ثلاثة آلاف سنة، وسلكت طريقها إلى أرجاء العالم، إضافة إلى بضائع أخرى، وانتقلت من الصين إلى أواسط آسيا وشمال أفريقيا ووسط أوروبا، واتخذت مسارات محددة، عُرفت في الزمن القديم باسم “طريق الحرير”.
ومع مجيء زعيم الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ (1893-1976) حاول إعادة إحياء “طريق الحرير”، لكن الظروف في القرن الـ20 لم تشجع على إعادة تدشين الطريق البري والبحري، ومع وصول الرئيس الصيني الحالي شي جينبينغ” في مارس (آذار) 2013، أعلن بعد أشهر قليلة من توليه الرئاسة عن إطلاق مبادرة “الحزام والطريق” ليعيد إحياء فكرة “طريق الحرير” مرة أخرى، هادفاً إلى الربط بين الصين وبقية دول العالم.
مواجهة العقوبات الدولية
وسط هذه الأجواء، يطرح الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله في خطابه الأخير في 16 يونيو (حزيران) عنواناً أساسياً لمواجهة “قانون قيصر”، البحث عن دول تقبل الدفع بالليرة اللبنانية، أو التحوّل إلى نظام المقايضات، والاستغناء عن الدولار، هذا الطرح يكشف عن توجهات “الحزب” في المرحلة المقبلة لمواجهة تداعيات “قيصر”، في ظل عقوبات تتساقط على إيران وحلفائها في المنطقة، فبعد طرح الجمهوريين في الكونغرس الأميركي أكبر خطة عقوبات ضد طهران وأنصارها، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية حزمة عقوبات جديدة ضد إيران تستهدف ثماني شركات تعمل في قطاع إنتاج الصلب والمعادن الأخرى، قالت إنها على صلة بمجموعة “مباركة” للصلب الإيرانية، التي تم إدراجها في القائمة السوداء عام 2018 لصلتها بالحرس الثوري الإيراني.
الردّ على خطاب نصر الله عن الدعوة لتوجه لبنان شرقاً، جاء على لسان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، الذي قال في حديث صحافي إن هذه الدعوة “صادمة” سائلاً عن حجم المساهمات المالية والتقديمات الصينية للبنان؟ وكم قدمت روسيا من مساهمات مالية للبنان؟، وقال “الولايات المتحدة كانت في عام 2019 أكثر دولة قدّمت مساعدات للبنان، بأكثر من 750 مليون دولار أميركي كمساهمات اقتصادية وتنموية وأمنية”، وأعطى مثالاً عن الدول التي تعاملت مع الصين كجيبوتي، وأضاف “الصين لم تقدم سوى “الفخاخ” والديون المرتفعة وعقود الاستثمار غير الشفافة، وجميعنا يرى كيف تسعى للاستحواذ على أي دولة تقصر في دفع مستحقات الديون، كما فعلت في بعض الحالات، إذ استحوذت على المرافئ لمدة 99 سنة، وقدمت للعالم عدم الشفافية في موضوع كورونا، هذا ما قدّمته الصين”.
وفي حديث إعلامي لسفيرة الولايات المتحدة في بيروت دوروثي شيا، تقول “اللبنانيون لا يعانون من سياسة واشنطن بل من عقود من الفساد”، ولوحت بـ “عقوبات قد تطال حلفاء وداعمين لـ “حزب الله” من طوائف أخرى”، متهمة حسن نصر الله بأنه “يهدد استقرار لبنان”، ومشدّدة على أن “حزب الله يمنع الحل الاقتصادي”.
وردت السفارة الصينية في لبنان، على كلام شينكر، وقالت في بيان، “ظل الجانب الصيني منذ فترة طويلة يعمل بنشاط على دفع التعاون العملي بين الصين ولبنان على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة، وكانت الحكومات اللبنانية المتتالية تتخذ مواقف إيجابية تجاه التعاون مع الصين، ووقعت الحكومتان الصينية واللبنانية مذكرة التفاهم حول التعاون في بناء الحزام والطريق”.
أين يقف الاقتصاد اللبناني؟
أين يقف الاقتصاد اللبناني؟ وهل التوجه نحو الشرق سياسي أم اقتصادي؟ وهل هو إعادة لإحياء فكرة طريق الحرير؟ وهل يستطيع لبنان التخلي عن التعامل بالدولار؟ وما هي الدول التي توجهت شرقاً، ونجحت بتجربتها؟ وهل يستطيع لبنان في خضم عقوبات دولية على المنطقة تحويل وجهة اقتصاده من حرّ إلى موجه؟ وأين تكمن الحلول إن وجدت؟ أسئلة توجهت بها “اندبندنت عربية”، إلى باحثين ومحللين اقتصاديين.
الباحث الاقتصادي، زياد ناصر الدين، الذي كان من الأوائل الذين طرحوا فكرة التوجه إلى الشرق، يربط هذا التوجه بتنويع خيارات لبنان الاقتصادية، ويقول عن فكرة إعادة إحياء “طريق الحرير”، “الصين بحاجة للعالم مثلما العالم بحاجة إليها، مليار ونصف مليار شخص بحاجة للغذاء الذي لا يمكن توفيره على الأراضي الصينية”، ويعتبر أنه لا يمكن حصر الشرق في الصين وحدها، فهناك مجموعة من الدول التي اتخذت خيارات اقتصادية بناء على النموذج الشرقي، وتعتبر اقتصاديات واعدة كالهند، وتركيا، وماليزيا، وإندونيسيا، وروسيا، ويشرح أن الفرق بين النموذجين، أن الشرقي يعتمد على التنمية والإنتاج الصناعي والزراعي وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي، أما النموذج الغربي فيعتمد على الاستهلاك والاستدانة والضرائب، “الغرب يعيش مرحلة الاقتصاد الترفيهي، بينما الشرق يعيش مرحلة اقتصاديات الضرورة”، ويعتبر ناصر الدين أن العالم، في عصر العولمة الاقتصادية، والذي هو أقرب إلى النموذج الغربي، وصل الناتج المحلي العالمي فيه إلى 78 تريليون دولار، أما الديون فهي 278 تريليون دولار، “من هنا برز نموذج الشرق كدول غير مديونة” ويعطي مثالاً، “يبلغ الناتج المحلي للولايات المتحدة 21 تريليون دولار، أما ديونها فتبلغ الـ22 تريليون دولار، أما الناتج المحلي للصين فيبلغ 18 تريليون دولار، ولا ديون عليها”.
تنويع الخيارات الاقتصادية
وعن تحول لبنان إلى ساحة للصراع بين نموذجين اقتصاديين، يعتبر ناصر الدين أن “مشكلة الولايات المتحدة مع الصين أن معظم الانتاج الصناعي أصبح في الشرق، بينما معظم الغرب أصبح مجتمعاً استهلاكياً، إذ إن دول آسيا تمتلك المواد الأولية واليد العاملة والتكنولوجيا الصناعية، كالهند وماليزيا وغيرهما”، ويرى أن الشرق الأوسط كدول الخليج مثلاً، لديه ميزة امتلاكه الطاقة التي تفتقدها الصين، من هنا أهمية لبنان الذي يملك قدرة المعرفة والتي يتفوق بها على دول المنطقة، إضافة إلى موقعه الجغرافي”، ويؤكد أن “الصين طرحت، منذ 2016، مشروع تأهيل الكهرباء ومشروع سكة الحديد، الذي من المتوقع أن يوفر كلفة نقل بمليوني دولار يومياً، إضافة إلى مشاريع أخرى، لكنها عرقلت لأسباب سياسية، ما دفع بالصين إلى أن تستثمر على الأراضي الفلسطينية عبر تطوير مرافئ منها مرفأ حيفا الذي أصبح يدخل إلى الخزينة بعد تطويره مبلغ 4.5 مليار دولار سنوياً، واستثمارات أخرى بقيمة 40 مليار دولار”، ويعتبر أن لبنان يستطيع الاستفادة من فكرة “الحزام والطريق” لأن الصين بحاجة له كمدخل أساسي إلى أوروبا وأفريقيا عبر مرافئه الحيوية لا سيما طرابلس وبيروت.
لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد
لكن الاقتصادي روي بدارو يعتبر أنه لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة، وعن التوجه نحو الشرق يرى أن “الموقف صادر عن رجل سياسي ويتكلم عن الاقتصاد”، ويقول عن إعادة إحياء “طريق الحرير”، “الفكرة فكرة صينية لا يحييها فريق من بلد آخر، الدولة الصينية هي من تحييها”، ولا يعتقد بدارو أن هناك اتفاقاً بين الصين و”حزب الله”، لكنها إرادة “الحزب” لجرّ لبنان إلى مكان آخر.
ويعتبر بدارو أنه لا يمكن للبنان التخلي عن التعامل بالدولار، إذ إن أكثر من 70 في المئة من النظام العالمي يتعامل بالدولار “إلا إذا أردنا أن تقتصر حياتنا اليومية على طريقة العيش نفسها التي تعيش بها دول ككوريا الشمالية، أو إيران أو فنزويلا”، ويؤكد أنه لا يمكن إنقاذ أي اقتصاد إلا بالواقعية السياسية والاقتصادية، ويقول “لا أعرف أي بلد ذهب إلى هذا النوع من الاقتصاد، وأنقذ اقتصاده، لا بل أغرق اقتصاده وأغرق آمال الأجيال الصاعدة”.
ويؤكد الاقتصادي روي بدارو أيضاً أن طريقة حياة اللبنانيين هي أقرب إلى الحياة الأوروبية، إذ “لا نستطيع الذهاب إلى اقتصاد موجه”. ويرى أن الحل، “سياسي بالدرجة الأولى، والباب للدخول لبقية الإصلاحات الاقتصادية، يبدأ بالمثلث الذهبي، أرض وشعب ونظام، وإذا لم نعرف ما هي حدود البلد ولم نحافظ عليها، تكون إحدى الركائز قد سقطت، والشعب، والنظام الاقتصادي الحر”، ويعتبر أن “البلد بحاجة إلى إصلاحات بنيوية، ليس فقط الكهرباء، بل الخدمة المدنية، والبيئة وطريقة حوكمة جديدة، وكلها من باب المدخل السياسي”.
لا مرتكزات اقتصادية لخيار التوجه شرقاً
أما سامي نادر الباحث الاقتصادي والمحلل لشؤون الشرق الأوسط فيرى أن “خيار التوجه شرقاً مناورة سياسية، ولا توجد لها مرتكزات اقتصادية، هو يتوجه للأميركيين، بالقول إننا لن نذعن لشروطكم، ولدينا خيارات أخرى، وهذا ضمن شدّ الحبال القائم بين “حزب الله” وإيران من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، لكن في الواقع، لا أحد يفرض شروطاً على أحد، ولا يوجد من يعطي أموالاً لوجه الله”. ويعتبر أن لبنان هو الذي يريد الحصول على مساعدة من صندوق النقد وليس العكس، ويسأل نادر “من قال إن الصين مستعدة أن تدخل كدولة لمساعدة لبنان؟ الصين جزء من المجموعة الدولية الداعمة للبنان التي التأمت عام 2015، والتي أصدرت بياناً يدعم التوجه إلى صندوق النقد الدولي، بالتالي الصين وروسيا وجامعة الدول العربية والمجموعة الأوروبية، في مجموعة الـ ISG الدول الداعمة للبنان.
ويرى نادر أن “الصين إذا أرادت أن تدخل إلى لبنان فسيكون عبر شركات وضمن صفقات تجارية وليس اتفاقات اقتصادية من دولة لدولة”، ويقول “عام 2015 حاولت الصين وضمن “طريق الحرير” أن تدخل من بوابة إعادة إعمار سوريا، واستحوذ مرفأ طرابلس على اهتمامها، وأرسلت وفوداً مرات عدة، لكنها عزفت في النهاية لأن الشروط السياسية غير متاحة”، ويشرح نادر أنه “إذا ما سلمنا جدلاً، أن الشركات الصينية لزّمت بناء سدّ أو خطّ قطار أو غيرها، فهذا لن يعطي مردوداً إلا بعد أربع إلى خمس سنوات، لأن هذا ضمن منظومة “سيدر” للاستثمار في البنى التحتية، وهذا لن يحلّ الموضوع في ظل الانهيار والتضخم الحاصل، ولبنان بحاجة لضخ أموال في الأيام المقبلة، ولهذا نحن بحاجة للذهاب إلى صندوق النقد للحصول على مساعدات دولية”.
الصراع الإيراني يستنزف آخر مقدرات لبنان
ويؤكد نادر أن العقوبات الإيرانية و”قيصر”، أثرت كثيراً في الأزمة اللبنانية، “لأن جزءاً من الطلب على الدولار، ناتج من أن الدولار يذهب إلى الداخل السوري، لتكوين احتياطي بديل، إن كان عبر شراء الدولار مباشرة، أو عن طريق تهريب المواد المدعومة من مصرف لبنان إلى سوريا، أو استعمال ودائع السوريين لتسييلها وشراء بضائع بالسوق السورية، وبجميع الأحوال، هذا استنزاف لقدرات المالية المتبقية في البلد، استنزاف لفلس الأرملة الباقي، ما زال لدينا 18 إلى 19 مليار دولار احتياطي موجود في مصرف لبنان، قد يكفينا لأيام أو لأسابيع مقبلة، بالتالي الجرح السوري نتيجة العقوبات، وتفاعل الصراع الإيراني يستنزفان آخر مقدرات لبنان الاقتصادية والمالية”.
نقلاً عن اندبندنت عربية