الصراع في رحلة البرزخ* مادونا عسكر

النشرة الدولية –

تتوجّه هذه القراءة نحو قصيدة “البرزخ” للشّاعر الفلسطينيّ كميل أبو حنيش، متّخذة من “البرزخ” والبرزخيّة منطلقا ومنطقا للتّحليل، ليكشف التّحليل عن تلك الأبعاد الدّلاليّة الّتي كَمِنَت في هذا اللّفظ، فانفجرت دلالته ليتشبّع منها النّصّ، وبالتّالي مآلات النّصّ وقدرته على الكشف عن قناعات الشّاعر الشّخصيّة وما يعيشه من صراعٍ نتيجة ما يحياه من أوضاعٍ خاصّة.

يعني البرزخ الحاجز بين شيئين، وما بين الموت والبعث، فمن مات دخل البرزخ. وللشّاعر قول آخر في البرزخ  الّذي أراد أن يبتنيه بنفسه ولنفسه مستنداً إلى ذاك المعنى، ومحوّلاً إيّاه إلى معنى  يتفجّر من عمق نفسه وأبعد ما يكون عن المعنى الدّينيّ الغيبيّ. البرزخ في قول الشّاعر رؤية خاصّة، وقد تكون فلسفيّة نتجت عن تأمّل خاصّ بالواقع الّذي يحكمه الزّمن المتوقّف والمعطّل، فشكّل حاجزاً بين رؤى الشّاعر الفكريّة والوهم الّذي يملي عليه التّمرّد، ولو ضمنيّاً، فيكون عنصراً إراديّاً يحتكم إليه الشّاعر، ليعبّر عن إرادته الحرّة. إلّا أنّ الشّاعر حمّل النّصّ الكثير من الغموض؛ ليعكس العمق الشّخصيّ، فتجلّت حركة النّصّ مكبّلة من جهة، ومن جهة أخرى متحرّكة بحركة حلم الشّاعر.

على مدخلِ الأبدية ِ

أخطو ِبقَدَميَ لا بِفُؤادي

افتتايحّة ملتبسة المعنى، تأخذ القارئ باتّجاهين. الأوّل يخلص إلى أبديّة ما بعد الموت، واتّجاه آخر يترادف ومعنى المؤبّد الأبديّ. إلّا أنّه من المرجّح أنّ الشّاعر ينطلق من الواقع الخاص الّذي يخطو إليه بقدميه تاركاً فؤاده حرّاً طليقاً، لكنّه، ضمناً، يتمرّد على هذا الواقع بأبديّته الخاصّة قائلاً:

وَأُملي بنفسي سِفرَ البدايةَ

وأَكسّرُ كلَ الدَوائِرِ والأغنياتِ الرَّذيلةَ

وأحبِسُ تِلكَ الإِشاراتِ حولي

أُفَكًكُ كُلَ الطَلاسِمَ مِن جانِبَي

ومِن فَوقِ رأسي وتحتي

وأُملي بِنَفسيَ ِسفرَ الخُروجِ

كأنّي بالشّاعر يعيد ترتيب قناعاته، وإن لم يعبّر عنها صراحةً، إلّا أنّ تعبير (أملي بنفسي) يبرز جليّاً إرادة الشّاعر في إعادة بناء الحياة بعيداً عن كلّ ما هو غير مفهوم. ما يشير إلى صراع عميق أنتجته أسئلة وجوديّة وحيرة لا خلاص منها إلّا ببناء وهميّ يؤسّس للبداية ويحدّد الخروج. وبالإشارة إلى لفظ (سفر) المترافق مع البداية والنّهاية يمنح الشّاعر بناءه طابعاً قدسيّاً ينزع عنه الواقع المعيش المقيت والمضطرب والمقيِّد. (وَلكن! سأترُكَ خلفي كُلّ العَجينِ/ وكلّ السّيوفِ/ وكلّ الوعودِ/ وكلَ الخطايا) لا تعود عبارات (العجين والسّيوف والوعود والخطايا) إلى الشّاعر، وإنّما هي مرتبطة جذريّاً بعمقه المتصارع وأسئلته الوجوديّة لذلك يضيف (وأخطو بقلبي إلى أرضِ حُلمي/ وأغزو بجيشٍ من الحبِّ). وهنا يبرز معنىً أوّل للبرزخ عند الشّاعر (أرض الحلم). يخرج حلم الشّاعر عن إطار الرّغبة ليدخل حيّز التّخيّل والفرق دقيق بين التّخيّل والرّغبة. ففي الحلم شيء من الحرّيّة والرّغبة في تحقيقها، وأمّا التّخيّل فهو بناء وهميّ يهرب إليه الإنسان لعدم القدرة على تحقيق ما يريد. ما يعزّز المعنى الأوّل للبرزخ عند الشّاعر.

بدأ الشّاعر رحلته البرزخيّة في القسم الأوّل من علو باسطاً إرادته المتمرّدة على مجمل حياته الشّخصيّة. وأمّا في القسم الثّاني فينزع إلى تفصيل الوقت الصّديق والعدوّ في آن.

أروّضُ وَقتي

كما اعتادَ فلاح

تطويع بغل الحِراثَة ِ

أهدهدهُ كي ينامَ قليلاً

وأبحَثُ عَن فُسحةٍ في مَنامه

لِكَي أحضُنَ الأُمنيات كأنثى

وأستَنبِتُ الحُلمُ في أرضِ وَهمي

يروّض الشّاعر الوقت العنيد ويخضعه للنّوم المرادف غالباً للموت. فلا يقول أقتله لسبب في نفسه بل يهدهده لينام قليلاً (يتوقّف) ليتجاوزه لاحتضان المستحيل أو ما هو صعب المنال ليزرع حلمه في أرض وهمه. وهنا  يتجلّى المعنى الثّاني للبرزخ عند الشّاعر، أرض الوهم. فيعبّر الشّاعر للقارئ عن الوقت الصّديق الوهميّ الّذي يتحوّل إلى عدوّ شرس ينتهك حياة الشّاعر ويعطّل مساره (يَعُضّ ويغدو وحشاَ طليقاً / وَينهَشُ مِنكَ طَراوَةَ لَحمِكَ / يَمتَصُ دَمَكَ) هذا العدوّ أقوى من الشّاعر، بل حرّ طليق يتمتّع بالسّلطة. إلّا أنّ الشّاعر يفصل بين الوقت كعنصر زمنيّ مسيطر ووقته الشّخصيّ. فالوقت الحرّ الطّليق غير وقت الشّاعر المقيّد مثله.

سَيشتَدّ عودي قليلاً

وأدرجُ مَع كُلّ دَمعة عشقٍ بجوفِ الظَلامِ

وأضحَكُ مع كلّ أنُثى بِرأسي

وكُل لُحيظةَ هتكٍ بِعفَة َ وَقتي

المُزنّرِ مِثلي بِقيدِ الحَديدِ

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الوقت المتماهي مع الشّاعر المنهك من قسوة الحياة المعبّرة عن الموت مجازيّاً. لكنّه يقاوم بالدّمع تارة والضّحك طوراً، وهو التّائق في عمقه إلى نصفه الثّاني أو صورته الأخرى المكملة للعشق.

يعتقد الشّاعر أنّ المسيرة في برزخه قادرة على جعله يكشف ألغاز الحياة، ولعلّه يظنّ أنّ لأسئلته الوجوديّة إجابات ما، أو أنّه قادر على حلّها أو أنّه غير قادر على مواجهة الحقيقة (سَأغفو قَتيلاً/ قُبيلَ تَمَكُن قلبي من معرفة السرّ) لذلك يدور قلبه في الفراغ (يَنمو ويَنأى ويَرنو ويَعمى ويَنمو ويَثنى ويَعدو ويَبقى/ دَليلي في قلبِ الظّلامِ الطَويل / ودَربي إلى الأَمنياتِ البعيدة ) وهنا معنى ثالث للبرزخ (الظّلام الطّويل)

أرض الحلم، وأرض الوهم، والظّلام الطّويل، ثلاث تجليّات للبرزخ. لكنّ الشاعر الّذي دخل الأبديّة بقدميه لا بفؤاده يبقى طليق القلب مستنيراً به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button