قراءة عن كتاب “مخائيل نعيمة وكمال جنبلاط شاعران في محراب الصوفية” لنتالي الخوري

النشرة الدولية –

تحاشت نتالي الخوري غريب الضياع على سبل مضلِّلة، فواظبت على دراسة تأملية فلسفية، وأدركت ما هو مختصّ بروحية الشاعرين مخائيل نعيمة وكمال جنبلاط. فكان كتابها “مخائيل نعيمة وكمال جنبلاط شاعران في محراب الصوفية”، الصادر عن “دار سائر المشرق للنشر”، بحسب ما نشر الاستاذ يوسف طراد في (جريدة النهار الثقافية).

إدراك الباحثة، تخطى ضرورة ما تحدِثه ماديّة حضارتنا، كردة فعل من تعطش إلى المطلق وإلى الصوفيّ. فتواصلت مع اللامنظور في شعر الشاعرين، مشبعة تعطش القارئ، للحقائق التي أدركتها، والتي بدونها لايسعنا التوغل بعيدًا في القراءة، عبر نصوص تحوي جفاف السرد وبلاغة الرصد.

بكلام فلسفي هادف، جعلت ناتالي الصوفية في الشعر، قريبة بل مشابهة للصلاة التأملية. بهدف الوصول إلى تكامل روحي مع الرب بعد أن خلقنا “على صورته ومثاله”، وجعلتنا نستخلص حقيقة معرفة الشاعرين للرؤية الباطنية المتشوقة لمعانقة المطلق: “فإنّ الفلسفة تتعلق بمعرفة الكمالات المطلقة وتميّزها مما هو حقيقي، كذلك أصحاب التجربة الصوفية، فإنهم يبحثون عن الوجود الإنساني الكامل في هذه الدنيا…”.

خلال البحث الذي امتاز بمزج المفاهيم العقلية لدى الشاعرين، مبينًا أن التشابه أكثر بكثير من التباين، وعلى رغم وجود فرق جوهريّ بين الروحانية الدرزية والروحانية المسيحية، فغاية التصوف في الروحانيتين تؤدي إلى نهاية مسيرة روحية واحدة، تسعى إلى الذوبان والفناء والاندماج الكلي في الكّل الأعظم. كانت تعليلات الباحثة منصبّة على إيضاح سبل القضاء على العذاب عند الشاعرين، بإخماد الشهوة وتذويب الفردية لصالح اتحاد حبٍ بين الشاعرين وربّهما، مبتعدين عن وهمية العرافة لتحقيق الذات من خلال النعمة الربّانية.

التحذير من الإنسان والمال عند جنبلاط ونعيمة، على الرغم من الاختلاف الجوهري بين الحي والجماد، جاء بخلاصة واحدة عند قول الأول: “أيها السكارى في حلم الخليقة، لم يكن هنالك من خليقة”، وقول الثاني: “تلك هي حال الناس مع المال/ ولا غرو/ فهم بالمال يأكلون ويشربون ويكتسون… وبالمال تدار حتى مدارسهم ومعابدهم”. فنّدت الكاتبة التقارب في الأفكار بين النماذج، مؤكدة أنه لا وجود للتشويش في عقل الشاعرين، اللذين جعل كل واحد منهما حياته مرتكزة على رحمة الرب المجّانية، في سبيل جعل كل صلاة تأملية طاقة ملقاة على عاتق كل مخلوق: “تمثل هذه النماذج تحذيرًا من الشاعر لأخيه الإنسان في سبيل التّيقّظ، فكان المنادى هو الإنسان الذي تنوب عنه صفاته”.

بطريقة فلسفية لا تحوي عضلات لغة، بل تغوص في ظروف الجسد ومتاهات الروح، ميّزت الباحثة لامبالاة الأجساد، وشغف الأرواح بالجمال في شعر النعيمي عندما قال: “لكن أذني البليدة/ لا تسمع الغناء/ وتسمعه روحي…”، أمّا في شعر جنبلاط عند قوله: “أمّا ذاك الربيع/ فلا تبصره العيون ولا تغمض عنه جفون العقل/ ولا تغرب عنه شمس الأزل…”، فعملت على صيانة ثقافة روحانية منبثقة من شواهد الشعر الصوفي لإدراك جفون العقل لشمس الأزل قائلة: “حاول جنبلاط أن يصف الألوهة أو يعبّر عن احساسه بها، فربيعه لا تبصره العيون، ولكن لا يستطيع أحد إغفاله أو عدم الشعور به، وهو الأولي الابدي السّرمدي”.

وهكذا، تابعت الباحثة، تعليل وتفسير وجود التشابه الموجود بالكم الكبير في شعر الشاعرين، المملوء بالتصوف الظاهر حينًا والمخفي في روحانية جميلة احيانًا. فقد عملت الكاتبة على إظهاره بطريقة علمية فلسفية طغت على جفاف البحث وجعلت القارئ يتابع بشغف ما طرحته في مطلع كل مقطع ليجد في نهايته الجواب الشافي.

علّمتنا الكاتبة، بأن الصوفية ليست تقنية، وإنما هي نعمة، تجعلنا نتحاشى الضياع، وندرك كيفية اقتبال هذه الهبة الإلهية، بكثير من النَّجابة، وخاصة عند ممارستنا الصلاة التأملية. مما يتيح لنا، التمكّن من الوصول لحالة أسمى من الوعي. مبيّنة نوع القرابة بين الناسك والمتصوف إلى أي دين انتمى. فقد كان بحثها شاملًا، في إيضاح المسعى، للاندماج بالألوهية بين المعتقد التوحيدي الدرزي والمسيحي. والمقاربة الروحانية بين شاعرين، يلتقيان على الصعيد السريالي، المؤدي لبلورة التعامل الإنساني- الإنساني والإنساني- الإلهي. فقد اكتشفت جماليات الشعر بين الإثنين، وخاصة عندما كانا يناجيان الرب من خلال الطبيعة، ووصفهما لها.

لا سلطة على سلطة الروح، عندما يتناثر الشعر زهوًا، فوق السطور المشبعة بالروحانيات الصوفية، لشعراء منذورين على عتبة النبض السارح في الخيال الأسمى. فقد قرأت الكاتبة عُرْيَ الكلمات وألبستها حلّة جميلة، حينًا تظهر الشغف بالخالق، وأحيانًا شفافية مظهر المحبة من خلال معاني القصائد.

ضجّ الكتاب بالصوفية، من خلال إدراك الكاتبة لمعاني الفلسفة، ملتقطة لحظات النشوة بعطر الحبر والبريق الربّاني. فكانت دراسة موضوعية، أتت معانيها متماسكة لغاية التّعمّق بالصلاة الجوهرية، الهادفة لتحقيق الذات، وجعلها مفعمة بالإنسانية التي هي هدف العدل الإلهي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button