انفصال أسواق المال عن الاقتصاد.. لماذا يجب أن تشعر بالقلق؟
النشرة الدولية –
“البورصة مرآة الاقتصاد”.. تعتبر هذه العبارة واحدةً من أبرز كلاسيكيات الحديث عن أسواق المال وعلاقتها بالاقتصاد الكلي في أي دولة.
لكن أداء أسواق الأسهم العالمية في الربع الثاني من العام الحالي جاء مُخالفاً للضرر الاقتصادي الحاد؛ نتيجة تداعيات فيروس كورونا والتوقف الكبير للنشاط عالمياً.
لا شك أن الاقتصاد العالمي تعرّض لضربة تاريخية؛ جراء تفشي فيروس “كوفيد-19” وعمليات الإغلاق الوطني التي استهدفت السيطرة على الوباء، ما دفع صندوق النقد لوصف الأزمة بأنها “لا تشبه أي شيء سابقاً”.
وتعرّضت معظم الاقتصادات الكبرى لانكماش حاد في الربع الأول، وسط توقعات بمزيد من المعاناة في الفصل الثاني واحتمالات يشوبها عدم اليقين حال الوضع في النصف الأخير من العام.
وانكمش اقتصاد الولايات المتحدة بنسبة 5% في الربع الأول من العام الجاري، كما سجلت ألمانيا هبوطاً بنسبة 2.2% مع انخفاض حاد في اليابان والمملكة المتحدة وغيرهما من الاقتصادات الكبرى.
وبالنظر لإجمالي الوضع المنتظر هذا العام، خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته في يونيو الماضي لأداء الاقتصاد العالمي لانكماش 4.9%، مبرراً ذلك بأن النشاط تأثر في النصف الأول بأكثر من المتوقع سابقاً، كما أن التعافي المنتظر سيكون تدريجياً بوتيرة أقل من المأمول.
ويرى الصندوق أن الاقتصادات المتقدمة ستشهد انكماشاً حاداً بنسبة 8% بقيادة إيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة، كما سيتراجع الناتج المحلي للأسواق الناشئة بنحو 3% مدفوعاً بشكل خاص بالهبوط في البرازيل والمكسيك والهند.
وحتى فيما يخص العام المقبل، يتوقع الصندوق تعافياً أقل من المنتظر سابقاً بنحو 5.4% منخفضاً عن التقديرات الصادرة في أبريل، كما أن الناتج المحلي الإجمالي سيكون في العام المقبل أقل 12 تريليون دولار مما كان عليه قبل الوباء.
وفيما يخص حال العمال، قدرت منظمة العمل الدولية تراجع عدد ساعات العمل 14% في الربع الثاني، وهو ما يعادل فقدان 400 مليون وظيفة بدوام كامل، مشيرة إلى أن التوقعات في النصف الثاني شديدة الضبابية وأي تعافيٍ متوقع هذا العام لن يكفي لتعويض الوظائف المفقودة قبل الوباء.
إذاً تشير الأرقام الاقتصادية الحالية والتوقعات المستقبلية إلى وضع سيئ للغاية على جميع المستويات وفي كل المناطق حول العالم، فماذا عن رد الأسواق؟
رغم قتامة التوقعات الاقتصادية وعدم اليقين الذي يشوب الآفاق المستقبلية، فضلت الأسواق المالية تجاهل هذه الرؤية السوداوية واتجهت لتسجيل مكاسب قوية.
وحقق مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” للأسهم الأمريكية مكاسب تقارب 20% في الربع الثاني من العام الجاري في أفضل أداء فصلي منذ عام 1998، بينما يواصل “ناسداك” الغالب عليه أسهم شركات التكنولوجيا كسر المستويات القياسية تباعاً.
وفي أوروبا سجّل مؤشر “ستوكس 600” ارتفاعاً بنسبة 13% في الربع الثاني محققاً أفضل أداء فصلي منذ عام 2015، كما تكرر الأمر في آسيا بصعود “نيكي” الياباني بنسبة 16%.
ويأتي الصعود الكبير لمعظم أسواق الأسهم العالمية في الربع الثاني بعد هبوط حاد شهدته في أول ثلاثة أشهر من العام الحالي مع بداية الوباء والذعر الذي انطلق عالمياً.
لكن ما الذي تغير لتتحول الأسواق من الهبوط الملحوظ في فبراير ومارس إلى الصعود الكبير في الثلاثة أشهر التالية؟
تتباين التفسيرات بشأن الصعود القوي والمتواصل لأسواق الأسهم العالمية بداية من توقعات المستثمرين بحدوث تعافٍ سريع وحاد على شكل حرف V، وحتى تبرير الأمر بإجراءات السياسة المالية والنقدية.
وتشير الحكمة الاستثمارية المعروفة إلى أن الأسواق تستبق الأحداث، تعبر عنها وتتعامل على أساسها وتظهر في الأسعار المتداولة على الشاشات قبل أن تتحقق في الواقع فعلاً.
ورغم الهبوط الحاد في النشاط الاقتصادي وأرباح الشركات حالياً والتوقعات التي يغلب عليها الشك والقلق، فإن الأسواق فضّلت أن تهتم بالجانب الإيجابي والمتمثل في التحسن النسبي للبيانات الاقتصادية مع إعادة فتح الاقتصادات تدريجياً.
ونجح الاقتصاد الأمريكي في إضافة وظائف جديدة في شهري مايو ويونيو، كما تواصل ثقة المستهلكين تعافيها في معظم الاقتصادات المتقدمة مع صعود ملحوظ لمبيعات التجزئة ومؤشر مديري المشتريات المعبر عن نشاط للقطاع الخاص، فيما يراه البعض دليلاً على إمكانية التعافي السريع للاقتصاد.
بينما يبرز الدور الكبير للبنوك المركزية العالمية في وقف نزيف الخسائر والتحول للصعود القوي، مع حقيقة الارتفاع القياسي للميزانيات العمومية بنحو 6 تريليونات دولار.
وساعدت قرارات الفيدرالي الأمريكي مثلاً والمتمثلة في خفض معدل الفائدة لنطاق يتراوح بين صفر و0.25% مع إقرار برامج لتسهيلات الإقراض وشراء سندات حكومية وخاصة وحتى ديون الشركات ذات التصنيف غير الائتماني “الخردة” لضمان قدرة المؤسسات على الاقتراض بتكلفة منخفضة.
وساعدت هذه التدابير غير المسبوقة من قبل البنوك المركزية على عودة شهية المخاطرة لدى المستثمرين سواء عبر صعود أسواق الأسهم أو توقف نزوح المحافظ الاستثمارية من الأسواق الناشئة بل وظهور نفقات داخلة جديدة، بالإضافة إلى تضييق الفروقات الائتمانية للسندات.
ظهرت مقولة “الأسواق ترتفع فقط” مؤخراً للتعبير عن حالة التباين بين صعود الأصول الخطرة وتراجع أداء الاقتصاد العالمي.
ويقول محمد العريان الاقتصادي ومستشار شركة “أليانز” إن ارتفاع الأسواق المخالف للحالة المتراجعة للاقتصاد يبرز دور المستثمرين الأفراد الذين يراهنون على استمرار دعم البنوك المركزية وتجاهل الأساسيات الأخرى.
وفتح المتداولون الأفراد عدداً قياسياً من حسابات التداول الجديدة في الولايات المتحدة خلال الربع الأول من العام الجاري، بعد تراجع الأسهم وتدخل الاحتياطي الفيدرالي بقرارات خفض الفائدة وضخ السيولة.
لكن المعضلة تظهر في أنه إذا لم تعد الأسواق مرتبطة بالاقتصاد، فإن أموال المستثمرين ستتصرف بطريقة متهورة وغير عابئة بالعواقب وهو ما يخلق مشكلة الخطر الأخلاقي والذي يعني أن الفاعل لا يتحمل مسؤولية أفعاله وبالتالي سيكون أقل حرصاً.
وتبرز المشكلة في أن الارتفاع غير المستدام والمبني على أسس غير سليمة يهدد بانهيار محتمل في حال حدوث صدمة مفاجئة، وهو ما يشكل خطراً على التعافي الاقتصادي لاحقاً.
ويدلل صندوق النقد على الانفصال بين الأسواق المالية والاقتصاد الحقيقي بحقيقة تزامن ارتفاع أسواق الأسهم الأمريكية مثلاً مع هبوط ثقة المستهلكين، وهما مؤشران اعتدنا وجود علاقة طردية بينهما تاريخياً.
وقد تدفع العديد من التطورات أسعار الأصول الخطرة إلى الهبوط الحاد، مثل اكتشاف أن الركود الاقتصادي أعمق أو أطول من توقعات المستثمرين أو ظهور موجة جديدة للوباء وما قد يتبعها من فرض تدابير لاحتوائها، أو حتى التوترات الجيوسياسية والاضطرابات الاجتماعية رداً على تفاوات الدخل والثروة.
وفي حال حدوث أي من هذه الصدمات، فإن تأثيرها على الأسواق قد يمتد للأسر والشركات والاقتصاد بأكمله، وربما يطيح بمصداقية وفعالية واضعي السياسة الاقتصادية.
وبالتالي فإن الصعود القوي للأسواق المالية في الربع الثاني رغم هبوط النشاط الاقتصاد قد يدفع الكثيرين لإعادة النظر في ترديد الكلاسيكيات المعتادة عن الروابط الوثيقة بين الاقتصاد الحقيقي والأسهم.