التخبّط يزداد في دمشق* خير الله خير الله
النشرة الدولية –
بعد ثلاثة أسابيع على دخول “قانون قيصر” حيّز التنفيذ، تزداد ردود فعل النظام في سوريا عشوائية. هناك عشرات الأمثلة على أن النظام، الذي يتظاهر بأنّه قادر على مقاومة “قانون قيصر”، دخل مرحلة جديدة من الانفصال التام عن الواقع.
هذا لا يعني أن النظام كان على علاقة من أيّ نوع بالواقع، منذ خلف بشّار الأسد والده في مثل هذه الأيّام العام 2000. لكنّ الجديد في الأمر أن التخبط زاد في دمشق حيث يرفض النظام الاعتراف بأنّ صفحته طويت وأن الورقة الإيرانية لم تعد ورقة. أكثر من ذلك، بات هناك إدراك عميق لدى النظام، وهو إدراك يرفض الاعتراف به، بأنّ لروسيا حسابات خاصة بها من جهة وأنّها في حال ضياع من جهة أخرى.
تقوم الحسابات الخاصة الروسية على أن سوريا ورقة وأنّه قد يأتي فيه يوم تمكن فيه المساومة على بقاء بشّار الأسد في دمشق. المشكلة في غاية البساطة. في أساس هذه المشكلة الروسية أن ليس هناك من هو مستعد لشراء الورقة التي اسمها رأس النظام السوري أو من لديه رغبة في ذلك. ما يؤكّد هذا الأمر، أن روسيا راحت في السنة الماضية تبحث عن طريقة أخرى في التعاطي مع الوضع السوري، معتمدة على تركيا وإسرائيل، في وقت لا تبدو أميركا مستعجلة على إخراجها من المستنقع الذي وجدت نفسها فيه.
على العكس من ذلك، هناك رغبة أميركية واضحة يعبر عنها المسؤول الأميركي عن الملفّ السوري جيمس جيفري. لم يخف جيفري أخيرا أن لا مانع لدى الإدارة الأميركية في أن تغرق روسيا أكثر فأكثر في المستنقع السوري.
ما يكشف حجم الضياع الروسي في سوريا اضطرار موسكو إلى الدخول في صفقات مع تركيا التي تحتلّ جزءا من الشمال السوري والتي تبدو مستعدة لتكريس هذا الاحتلال، بل وتوسيعه كي تصل، في غضون شهرين، إلى محيط حماة. فجأة، صارت روسيا أسيرة اتفاقات تمّ التوصّل إليها مع تركيا، تماما مثل تلك التي توصّلت إليها مع إسرائيل في ظلّ علاقة متميّزة تجمع بين الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.
تحوّل الاحتلال التركي لقسم من سوريا إلى أمر واقع أخذ علما به كلّ من يعنيه الأمر، بما في ذلك روسيا وأميركا وإسرائيل. يبقى الاستثناء الوحيد النظام في دمشق طبعا، وهو نظام يعيش في عالم خاص به. إنّه نظام يرفض حتّى الإقرار بأنّ الاحتلال التركي لأراض سورية دخل مرحلة باتت فيها العملة التركية هي المعتمدة في مناطق سورية معيّنة!
ما يبدو لافتا للنظر في ظلّ المعادلة الجديدة التي باتت تتحكّم بالوضع السوري، إصرار النظام على التصرّف وكأن شيئا لم يكن، علما أنّه ليس قادرا حتّى على التعاطي مع أهل درعا التي انطلقت منها الثورة في آذار – مارس 2011 أو مع المواطنين الدروز في السويداء ومحيطها.
مع اقتراب موعد إعلان واشنطن فرض عقوبات على المزيد من الشخصيات السورية، ومع الإصرار الأميركي على إدخال المساعدات الدولية إلى الشعب السوري، بعيدا عن المنظمات غير الحكومية التي ترتبط بأسماء الأخرس، زوجة بشّار، يعتقد النظام أن التصرفات ذات الطابع العشوائي يمكن أن تغطي على تخبّطه.
من منع سوريين موجودين في لبنان من دخول سوريا عن طريق نقطة المصنع، إلى فرض تصريف 100 دولار بالعملة المحلّية على كل مواطن سوري يرغب في العودة.. إلى بلده، إلى الإصرار على إجراء انتخابات نيابية في التاسع عشر من الشهر الجاري، على الرغم من الانتشار السريع لوباء كورونا، إلى الاتفاق العسكري والأمني الجديد الذي وقعه وزير الدفاع السوري ورئيس الأركان الإيراني قبل أيام في دمشق، ليس ما يشير إلى أن النظام على استعداد للاقتناع بأنّه ليس هناك ما يمكن الحؤول دون التفتت النهائي لسوريا غير رحيله.
لا مفرّ من رحيل النظام من أجل ولوج مرحلة انتقالية بموجب القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن في أواخر العام 2015. سيتبيّن في هذه المرحلة الانتقالية وفي ظلّ دستور جديد هل يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا.
مضحك أن يعتقد النظام السوري أن الفيتو الروسي الأخير في مجلس الأمن والذي يستهدف منع دخول المساعدات الدولية عبر معابر أخرى غير دمشق سيفيده في شيء. سيتحدّى الأميركيون والأوروبيون الروس في أقرب فرصة وسيسمحون بإيصال المساعدات عبر معابر في الشمال السوري أو في مناطق أخرى.
ما هو مضحك أكثر أن تعمل إيران عبر الاتفاق العسكري الأخير على جعل وجودها العسكري في سوريا شرعيا. هذا الوجود الإيراني في سوريا مخالف للطبيعة. مهما عملت إيران ومهما اشترت من الأراضي ومهما أجرت تعديلات ديموغرافية، ستبقى مرفوضة من أكثرية السوريين، لا لشيء سوى لأنّها تعتمد أوّلا على نظام انتهت صلاحيته.
لن يفيد النظام السوري في شيء لا بقاء روسيا في سوريا، ولا بقاء الميليشيات المذهبية التابعة لإيران فيها، ولا الإتيان بمزيد من الخبراء الإيرانيين لتطوير وسائل الدفاع الجوّي في مواجهة الغارات الإسرائيلية أو للتجسّس على السوريين. لن يفيده، خصوصا، اللعب على التناقضات الروسية – الإيرانية. عاجلا أم آجلا، ستكتشف روسيا أن ليس في الإمكان الجمع بين الضياع والسياسة وأنّ وجودها العسكري في سوريا لا أفق له.. اللهمّ إلّا إذا استطاعت التوصل إلى تفاهم في العمق مع أميركا وإسرائيل وتركيا ذات الأطماع المعروفة.
هناك لعبة انتهت. استمرّت هذه اللعبة أكثر مما يجب. من يفرض على المواطن السوري دفع مئة دولار من أجل أن يتمكن من دخول الأراضي السورية، يعني أنّه أفلس نهائيا. من يعتقد أن اتفاقا عسكريا مع إيران سيحميه من السقوط لا علاقة له بلعبة التوازنات في المنطقة، وهي لعبة أتقنها حافظ الأسد منذ كان وزيرا للدفاع في 1967 عندما وقعت هضبة الجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي.
لم يمض يومان على زيارة رئيس الأركان الإيراني محمّد باقري لدمشق من أجل توقيع الاتفاق العسكري الجديد مع سوريا حتّى حطّ قائد القيادة الوسطى الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي في شمال شرق سوريا. هل من رسالة أهمّ من هذه الرسالة لإبلاغ بشّار الأسد أن أميركا جدّية في تنفيذ “قانون قيصر” وأن معنى ذلك أنّه آن أوان البحث عن مخرج، لعلّ ذلك ينقذ ما بقي من سوريا.. هذا إذا بقي ما يمكن إنقاذه.