ثلاثية الضغوط على المصرف المركزي اللبناني: صدقية السياسة النقدية على محك تمويل المال* د. سهام رزق الله
النشرة الدولية –
طالما أنّ علم الإقتصاد يربط مفهوم الصدقية للمصرف المركزي بمدى إستقلالية سياسته النقدية عن السياسة المالية للدولة، فمن المنطق أن يكون ضرب الصدقية واهتزاز الثقة متصلين تحديداً بمدى الترابط بين السياستين، أي بمدى اعتماد الدولة على تأمين تمويلها من المصرف المركزي، خصوصاً في ظلّ استمرار عجزها المالي في غياب الاصلاحات لضبطه، كما ضعف الأفق في تحسّن الإيرادات الضريبية وضعف القدرة على استقطاب المكتتبين بسنداتها الجديدة. كيف تدرّج وضع صدقية المصرف المركزي في لبنان، وسط ثلاثية الضغوط بين الدين العام الناتج من تراكم العجز المالي والدولرة، و22 سنة من ربط سعر صرف العملة الوطنية بالدولار، المستعمل بالتوازي معها في السوق المحلي؟ إشكالية الخلل تدرّجت منذ الأزمة النقدية في الثمانينات مروراً بمرحلة التثبيت وصولاً الى تزايد الأعباء حتى الانفجار..ولا مخرج من أزمة قبل تحديد مكامن الخلل.
من المعروف أنّ ذكرى الفترة التضخمية وانهيار سعر الصرف في الثمانينات شكّلا أساس خيارات مصرف لبنان، من حيث سياسة الاستقرار النقدي وتثبيت سعر الصرف، التي انتُهجت بين عامي 1997 و 2019. وقد أظهرت مختلف الدراسات، أنّ المكمن الرئيسي لأزمة الثمانينات كان على وجه التحديد التمويل النقدي لعجز الموازنة، من خلال التسليفات المباشرة من مصرف لبنان إلى الخزانة. في المرحلة الأولى، كانت فترة التمويل عن طريق التسليفات المباشرة من مصرف لبنان إلى الخزانة، أي طبع النقد، وكان النهج النظري، الذي جعل من الممكن تفسير هذه الأزمة هو «التضخم المفرط والمفاجئ» الناتج من التمويل النقدي لعجز ميزانية الدولة تحت – ضغوطات الحكومة المعروفة بمشكلة «التضارب الزمني» التي قدّمها كيدلاند وبريسكوت [1977] وبارو وجوردون [1983].
مع تطور الدين العام، أصبحت السياسة الأنسب للسلطة النقدية اللبنانية مرتكزة على الأسلوب الكلاسيكي الجديد Sargent and Wallace [1981]. وقد أبرز هؤلاء المؤلفون، أنّه حتى لو كان البنك المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو الكتلة النقدية على المدى القصير، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة يمكن أن تؤثر على توقعات تحقيق الدخل، وبالتالي التوقعات التضخمية.
فكان اختيار العملاء الاقتصاديين هو «استيراد الصدقية النقدية» باللجوء إلى الدولرة. وكان اختيار مصرف لبنان هو السعي لتحقيق الاستقرار النقدي وفقًا للنهج التقليدي النقدي من خلال التحكّم بالتضخم بالارتكاز على سياسة نقدية مقيّدة، قبل التحرك تدريجيًا بشكل موازٍ لربط سعر الصرف. في ظلّ معدلات دولرة آخذة بالارتفاع، بحثاً عن ضمان القدرة الشرائية للمدخرات وتسهيلاً للتسعير والتداول للمنتجات.
إنطلاقاً من هنا، ومنذ فترة التضخم والانخفاض وتحفيز الدولرة في الثمانينات، اعتُمدت سياسات استقرار مختلفة، وتطورت نتائج كل منها في فترات مختلفة أيضاً. وقد أدّى التضخم الناشئ عن التمويل النقدي لعجز الموازنة إلى قيام مصرف لبنان بتطبيق سياسة استقرار قائمة على ضبط السيولة المتداولة في السوق بالعملة الوطنية، نظراً لعدم تمكّنه من التحكّم بالسيولة بالعملات الأجنبية، الأمر الذي أثبت ضعف فعاليته، لأنّ السيولة التي كانت متوفرة ومتداولة بالعملات الأجنبية كانت حينها الأكثر سيطرة. كان مصرف لبنان في وضع متناقض، إذ عليه من جهة أن يحدّ من السيولة المتداولة بالليرة اللبنانية، في الوقت الذي كان هو نفسه من ساهم في نموّها، من خلال تمويله النقدي لعجز الموازنة. منذ الثمانينات، حاول مصرف لبنان الحدّ من تسليفاته المباشرة للخزينة العامة، والحدّ أيضاً من تحويل مكاسبه من إعادة تقييم احتياطيات من الذهب إلى الخزينة العامة، كونه لم يقم لا بعملية بيع ولا إدارة لاحتياطي الذهب، حتى يعتبر أنّه حقق منه أرباحاً.
منذ بداية التسعينات، استبدل مصرف لبنان والحكومة التسليفات المباشرة بإصدار سندات خزينة، وطبّقوا سياسة أسعار الفائدة المرتفعة لتشجيع الاكتتابات فيها. وكانت هذه السياسة فعاّلة في الحدّ من التضخم، حتى عام 1997 عندما بدأنا في اكتشاف تأثير «الإزاحة» لهذا التقييد النقدي الزائد. منذ عام 1993، تبنّى مصرف لبنان سياسة التقدير التدريجي لليرة اللبنانية، حتى التثبيت الاسمي لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي عند 1507.5 كمعدل متوسط من عام 1997. وأظهرت هذه السياسة فعاليتها في ضبط استقرار سعر الصرف، خلال فترات الأزمات. ورغم ذلك، فقد تبيّن، لا سيما مع انفجار الأزمة منذ أشهر وبدء احتساب خسائر المصرف المركزي، كم كان هذا الخيار مكلفاً من حيث تدخّل مصرف لبنان المستمر في سوق الصرف، بالاعتماد على احتياطيات من النقد الأجنبي وكذلك من حيث أسعار الفائدة المرتفعة.
إنّ المراجع النظرية لدراسة سياسات التثبيت النقدي هي تلك التي لدى Guillaumont-Jeanneney [1994] التي تميّز بين سياسات التثبيت القائمة على المال، وسياسات التثبيت القائمة على سعر الصرف، في حالتين للاقتصاد التقليدي، لعملة واحدة والاقتصاد الدولاري. وتتيح هذه الدراسات فهم النتائج وفقًا لما إذا كانت السياسة النقدية للبنك المركزي موثوقة أم لا. وفي حالة لبنان، تظلّ فعالية سياسات التثبيت النقدي محدودة بسبب قيود مختلفة: بالتحديد الدين العام، وربط سعر الصرف والدولرة.
فالدين العام يمثّل تقييداً للسياسة النقدية ويؤثر على صدقية المصرف المركزي في أعين العملاء الاقتصاديين (الذين يتوقّعون عن حق لجوء الدولة اليه لتمويل الدين العام)، كذلك يشكّل معدّل الدولرة المرتفع تقييداً أيضاً للمصرف المركزي وسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والتي كانت مكلفة للاقتصاد، دون ضمان الاستقرار الفعلي، والبرهان استمرار معدّل الدولرة بحدود 76% بعد 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، فيما كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومتماه مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعاً بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي.
من المعلوم أنّ الدين العام قد ازداد بـ «تأثير كرة الثلج» منذ بداية فترة إعادة الإعمار في التسعينات. إلّا أنّ الدين العام شهد تغيرًا جذريًا في هيكليته في عام 2002. وحتى العام 2002، كانت الحصة أصل الدين العام بالليرة اللبنانية. منذ عام 2002 ، وبعد مؤتمر باريس -2 بالتحديد للدعم الدولي للبنان ، بدأت تكبر حصة الدين العام المقومة بالعملات الأجنبية، ولا سيما بالدولار الأميركي، بنسبة 50% من إجمالي الدين العام.
كان الهدف من هذا التغيير في هيكلية الدين العام هو تخفيض خدمة الدين العام ونمو الدين العام (حيث أنّ أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالدولار الأميركي أقل طبعاً من معدلات الفائدة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية)، وتشجع أصحاب رأس المال المقيم وغير المقيم على الاكتتاب فيها.
لعب هذا التغيير في هيكلة الدين العام دورًا حاسمًا في الحفاظ على سياسة سعر الصرف، وزاد من تعقيد قيود الدولرة. وصندوق النقد الدولي، الذي دعا سابقاً إلى تخفيض قيمة العملة، عاد وأيّد سياسة ربط سعر الصرف، بعد أن تبيّن له أنّ أي تخفيض في قيمة العملة سيؤدي إلى زيادة الدين بالعملات الأجنبية، وسيؤثر على ملاءة الدولة وسيخاطر بإحداث أزمة خطيرة في النظام المصرفي كالتي نعيشها اليوم..
إنّ دولرة نصف الدين العام، بالإضافة إلى ضعف القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية (بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج ومكوّناتها المستوردة بمعظمها) يجعل أي تخفيض في قيمة العملة غير فعّال، لأنّ الاقتصاد لن يكون قادرًا على الاستفادة من ذلك، إن لجهة تحرير نفسه من دينه العام أو لجهة زيادة صادراته.
أما أبرز المقترحات التي طُرحت لضمان الاستقرار النقدي في لبنان، فكانت ترتكز على التوسع التدريجي لهامش سعر الصرف، وفقًا لنهج ويليامسون للاقتصادات النامية، مقارنة بالحالة في لبنان، مما يسمح بالانتقال التدريجي من نظام التثبيت الجامد لسعر الصرف إلى نظام أكثر مرونة، يسمح بتحديد أولويات هدف التضخم وفقًا لتحليلات غولدشتاين. وفي الوقت نفسه، تعلّق هذه الدروس أهمية كبيرة على تنفيذ الإصلاحات المالية الموصى بها، للحدّ من وزن الدين العام، الذي يتحمّله البنك المركزي والمصارف التجارية، أي الجهاز المصرفي ككل، وبالتالي تجنّب التوقعات التضخمية المرتبطة بتوقعات تسييل الدين العام.
أما اليوم، فلم يعد بمقدور السياسة النقدية الاستمرار في دعم إخفاقات السياسة المالية، وحان وقت الأخذ في الاعتبار مخاطر استمرار تمويل القطاع العام وتدابير «القدرة على تحمّل ديون الدولة»… أما الاستمرارا بالاعتماد على المصرف المركزي وتكرار النهج ذاته دون أي إصلاحات في المالية العامة، فما هو الّا إعادة للسيناريو المؤسّس للأزمة، وطبعاً بشكل أشدّ أذى للاقتصاد الوطني.
فهل نأخذ العبرة لتحويل الأزمة الى فرصة باتجاه أكثر إنسجاماً بين السياستين النقدية والمالية، على أسس سليمة لكل منها، تعيد الثقة للحفاظ على ما تبقّى من رساميل في البلاد وتخفّض الدولرة عن قناعة وليس بشكل قهري في الاقتصاد اللبناني؟
* أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف