حل الدولة الواحدة: حوار طال سباته* حسن منيمنة
النشرة الدولية –
ثمة خطاب جديد قديم يعاد إحياؤه في أوساط “الممانعة”: إسرائيل إلى زوال. لن يحتاج المحور، والذي فرّط بحاضر مواطنيه ومستقبلهم، وقبل كل هذا بماضيهم، فداءً لـ “القضية المركزية”، أن يستعمل السلاح الذي كدّسه في المواجهة الحاسمة مع إسرائيل والتي تكرر وعده بأنها حاصلة لا محالة. بل إسرائيل من تلقاء نفسها، نتيجة للهلع الناجم عند التبديل المفترض لموازين القوى سوف تزول وتتبدد، فيما المقاومة على ما يبدو تسير من إنجاز إلى آخر.
كل هذا طبعا في عالم أوهام لا جدوى من السعي إلى تبديدها. عالم يتمسك بأسلوب ثابت في تلقي الخبر، أي خبر، وقراءته بما ينسجم مع النتيجة المقرّرة سلفا. هل امتنعت إسرائيل عن الهجوم؟ محور المقاومة ردعها وفضح عجزها. هل أقدمت إسرائيل على الهجوم؟ محور المقاومة أربكها وكشف خوفها وتخبطها. هل أنهك الوباء إسرائيل؟ دليل آخر على فشلها واقتراب نهايتها. هل نجحت إسرائيل في احتواء الوباء وتطويقه؟ دليل آخر على تورطها بتفّشيه.
هي مقدمة لا بد منها لتأطير موقف شجاع، من عمق الفكر التقدمي اليهودي، ووضع هذا الموقف في سياقه الإنساني المبدئي، قبل أن يتلقفه منطق محور المقاومة، ويسبر أغواره بنظره الثاقب ليكشف أنه ليس إلا إشعارا آخر بالانهيار التام القادم للمشروع الصهيوني.
بيتر باينارت مفكر وكاتب يهودي أميركي، صهيوني في اعتزازه بدولة إسرائيل وسعيه لتحقيق الخير والرقي لها، إنساني في إصراره ألا يكون هذا الخير والرقي على حساب الفلسطينيين، والتفريط بحقوقهم غير القابلة للتصرف. على مدى الأعوام، كانت دعوة باينارت المستمرة الدفاع عن حلّ الدولتين كالسبيل الأوحد الذي من شأنه أن يبقي إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية من جهة، ويقرّ للفلسطينيين بحقّهم بالأرض والسيادة فيما يرفع إثم الاحتلال عن الضمير اليهودي.
قد يكون من الصعب استساغة هذه الإشكالية في محيط عربي أفرط حتى الثمالة في تصوير اليهود على أنهم قتلة الأنبياء وأحفاد القردة والخنازير، وصولا لدى البعض إلى من جعل منهم تجسيدا للشر على مدى التاريخ، وأعاد منهجة كتابه ودينه ليصبح قتالهم أمرا إلهيا.
واقع الحال هو أن الفكر اليهودي قد تفاعل بدوره مع الحداثة، ورأى فيها أصداءً من قيمه وسبيلا إلى تشذيبها وتعميمها. وفي حين بقيت أوساط دينية عديدة على انطوائيتها وقراءتها التي تعتبر الجماعة اليهودية أمة الرب المختارة، فإن جلّ المفكرين اليهود، من المتدينين والعلمانيين، أعادوا تأويل الاختيارية على أنها مهمة مناطة بجماعتهم، لا مجرد امتياز. الأمة اليهودية هي بالتالي “نور للأمم”، ليس بطاعتها لفروض الناموس وحسب، بل بالتزامها الإقدامي بالعمل لتحقيق الخير للإنسانية.
يمكن التنبيه إلى أن هذا التصوير المعاصر للدور اليهودي يحافظ على الاختيارية الإلهية الغيبية، وإن بقميص حداثي يريد الموضوعية. ويمكن طبعا الإشارة إلى أن المجتمعات اليهودية لا ترتقي البتة إلى درجة الملائكية التي تريدها لها هذه القراءة، بل هي ككل المجتمعات البشرية تتألف من أفراد يسعون أولا إلى تأمين مصلحتهم الشخصية ثم الجماعية. غير أنه ما لا يمكن إنكاره هو أن مساهمة مجموع المواطنين اليهود، في مختلف الدول الغربية، في دعم القضايا التقدمية والخيرية، مرتفعة جدا بالقياس إلى عددهم.
ورغم هذا الاندفاع، يبقى التناقض الصارخ بين الموقف المعياري اليهودي، على حساسيته وإنسانيته، خارج الشأن الفلسطيني، وواقع الظلم اللاحق بالفلسطينيين والتغاضي عنه أو حتى تبريره بإلقاء اللوم على الضحية.
بيتر باينارت ليس من هؤلاء. هو لم يبرئ إسرائيل يوما، ولم يقبل بما ترتكبه من ظلم بحجة أن الفلسطينيين هم الذين يضيّعون الفرص، وأن خطابهم قاتل، وأن مناهجهم الدراسية موبوءة، وأن اعتداءاتهم تبين أنه لا سبيل للتعايش معهم. بل أصرّ على فهم كل هذا على أنه وليد القهر والاحتلال، وإن اكتسب زخما لذاته، وإن استغله العقائديون.
ولكنه ليس واحدا من مجموعة غير ضئيلة من المفكرين اليهود والإسرائيليين، والذين رسوا عند القناعة بأن المشروع الصهيوني مأزوم أخلاقيا منذ نشأته. فالإشكالية لدى هؤلاء هي كيفية الإقرار بالخطأ والتخلي عن الصهيونية. أما لدى باينارت، فالمسألة كانت ولا تزال كيفية المحافظة على الجوهر الأخلاقي للصهيونية، وهي التي حققت ملاذا لشعب عانى من أشنع أصناف الاضطهاد على مدى القرنين الماضيين على أقل تقدير، مع التصدي لجنوح الممارسة باتجاه تجاهل حقوق الفلسطينيين أو تجاوزها.
باينارت ليس وحيدا. قد يعجز معظم الخطاب السياسي العربي عن فصل مصطلحات “اليهودية” و “الصهيونية” و “إسرائيل” عن أوصاف “الأطماع” و “العدوان” و “الظلم”، وقد تفور دماء العديدين في المحيط العربي، عن جدارة، لما يطال الإنسان الفلسطيني من اضطهاد. غير أن الشق الذي يتجاهله الموقف العربي، بالإضافة إلى انتقائيته التي تطعن في صدقيته، هو أن مسعى التجانس المعنوي والتوفيق بين المصلحة والقيم هو أمر قائم ومستمر في مختلف الأوساط اليهودية والإسرائيلية، يمينها ويسارها، محافظيها وتقدمييها.
وهنا تكمن أهمية الموقف الجديد لبيتر باينارت. ففي صحيفة “نيويورك تايمز” ثم في مجلة “جويش كارنتز”، أعلن باينارت توصله إلى قناعة أن صيغة الدولتين، والتي كان من الذين سعوا صادقين إلى تحقيقها، لم تعد مجدية، وأن الظروف الموضوعية أصبحت تقتضي على الصهيونيين التقدميين الانتقال من السعي إلى تحقيق الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلى بذل الجهود للتوصّل إلى المساواة بين اليهود والفلسطينيين ضمن الدولة الواحدة القائمة للتوّ، والتي لا تنتفي بفعل الإنكار والتعمية من خلال توزيع الفلسطينيين على أطر سياسية متعددة (إسرائيل داخل الخط الأخضر، القدس، السلطة الفلسطينية في الضفة، حماس في القطاع).
لا ينطلق باينارت في إشهاره لموقفه من توقع إمكانية تحققه، بل هو يلحظ بأن الخيار المضمر لمعظم الإسرائيليين، كما يتبدى من الأفعال لا الأقوال، هو المحافظة على واقع التمييز المجحف بحق الفلسطينيين، ولكنه يشير إلى أن الطرحين، حل الدولتين بمختلف صيغه وصولا إلى الصيغة المتآكلة التي أنتجتها جهود الإدارة الأميركية الحالية، كما حل الدولة الواحدة والذي أعلن انتقاله إليه، متساويين بافتقادهما للواقعية وفي حظوظهما المرتقبة للتنفيذ. فالسؤال، من وجهة نظره هو أي من هذين الحلين من شأنه عند الطرح أن يدفع باتجاه نقاش للخروج من مأزق الأمر الواقع، بما يشكله من استمرار للظلم ومن تناقض مع القيم التي يريدها الصهيونيون التقدميون لإسرائيل.
يحتفظ باينارت بصهيونيته، أي التفاته إلى مصلحة الجماعة اليهودية وتعاطفه مع الإبقاء على الوجه اليهودي للدولة الموحّدة من خلال التذكير بأن الصهيونية لم تبتدئ سعيا إلى إقامة دولة يهودية، بل إلى تأمين وطن يهودي. فالدولة الواحدة قادرة أن تكون وطنا يهوديا ووطنا فلسطينيا في آن واحد، ولا تعارض من حيث المبدأ بين الدولة الملاذ ليهود العالم وبين حق العودة للفلسطينيين.
ردود الفعل السلبية الكثيرة على إعلان باينارت، من جانب المحافظين وبعض التقدميين من الصهيونيين تكشف بالفعل عن أنه قد نكأ جرحا معنويا في الفكر اليهودي والصهيوني. يجمع هذا الفكر، في الموضوع الفلسطيني، توجهات عدة.
عند أقصى اليمين يقبع التوجه الديني المتشدد، المتماهي إلى حد التطابق مع العديد من قراءات الإسلاميين، إذ يربط بين الحق الذاتي والمشيئة الإلهية ولا يرى حرجا في إسقاط حق الآخر، بل لا يقرّ به ابتداءً. ثم اليمين القومي الصهيوني، والذي يرضى للآخر بقدر محدود من الاعتبار، من باب المنحة، بعد استكمال المصلحة الذاتية. وهو بدوره قرين التوجهات القومية في المحيط العربي، العروبية القديمة وما بعد العربية.
على أن الفضاء الأوسع في الساحة الفكرية الصهيونية هو الذي يزعم، صادقا أو مدلسا، أن التناقض العملي بين الصهيونية المطبقة والقيم العالمية يعود إلى أن الآخر، الفلسطيني، العربي، المسلم، رافض لهذه القيم، ولا بد لإسرائيل من موقف وقائي.
باينارت يقول بأن هذا الرفض ليس أصليا، بل هو وليد غياب السبيل إلى تحقيق الحرية والكرامة والمساواة. ودعوته هي تحدٍ للفكر اليهودي عامة والصهيوني خاصة إلى إيجاد هذا السبيل.
صوت باينارت، ومن يوافقه الرأي، جدير بالإصغاء إليه. قد يرى فيه البعض، من أصحاب الطموح بإلغاء إسرائيل، مدخلا للتفتيت ويعيد تدويره للتأكيد على صواب قراءته حول فساد مفهوم الدولة اليهودية، بل قد يجري تسويقه للتوّ على أنه دليل انتصار آخر من انتصارات “محور المقاومة”.
ولكنه كذلك، في إثارته لمقولة الدولة البعيدة عن العقائدية واللون الواحد، ولمن يسعى جادا إلى مستقبل صلح وصلاح للجميع في هذه المنطقة، من شأنه أن يعيد مدّ جسور فكرية ومعنوية وحقوقية، بعد أن كاد التواصل بين إسرائيل والمحيط العربي يقتصر من جانب على مشترك سلبي في العداء لإيران، ومن جانب آخر على وهم حرب وجودية طحن مستقبل من أرغم على احتضانه.