قراءة تأملية في قصيدة “إنتشال” لغادة العزام* الدكتور سمير محمد أيوب
النشرة الدولية –
“انتشال”
ذات غفوة على ضفاف السكون
ذابت الروح
في عناد الوقت
تصارع الصبر فوق حلبة الموت
نبض يقرع الطبول
يهز أوتار الصمود
ولحن حزين
يرتل الرحيل
…
دروب مجهولة
تناظر
حقائبا مركونة
وتذاكر تمسح
دمعة مرهونة
لعقارب ملعونة
…
صوت مبحوح
يحمله الصدى
في دوران الأيام
صور
أوراق
أصوات
عطر
واختناق
يعتصر الكلام
…
حروف ذابلة في قبضة الحياة
وأكف تلملم همس الكلام
عيون
ونظرة للسماء
لما هو أبعد من أمل اللقاء
وفيض يمطر
أوجاعا
تثير لوعة البقاء
ظل فراشة يحلّق في شواخص
الذهول
يضم شظايا الألم
في قعر الآه
في خبايا السكون
ويعلو .
يعلو
لتعلن السماء
قرار تبنّي الظلال
وما تحمله من انتشال.
رغم الجدل المستمر حول قصيدة النثر، كصورة من صور الابداع الادبي، فإن تأثيرها المميز في المشهد الثقافي، لا يمكن تجاهله ولا يمكن للشعر إلا ان يكون روح عصره صحيح أن الشعر يتحدث عن نفسه، ولكن، وراء بوحه شخص يكتب في إطار تجربة ما. يريد ان يتواصل عبر ما يقول، مع متلق يقصده. لذا لا يمكن لنا ألا نخلط بين الشاعر وشعره ومقاصده.
مشكلة فهم النصوص الادبية أشد تعقيدا مما نعتقد. فالعوائق الخارجية في الفهم، تتمها معوقات داخلية كثيرة، تستحوذ على المبدع ويتورط فيها. ويتسرب الكثير منها الى ملامح نصوصه. ولا تدرك تلك السيرورة الجدلية، إلا من خلال ما يعلن المبدع صراحةً في نصه، او في ثنايا ما يبطن، او يصمت عن قوله.
نصوص ادبية كثيرة تكتب وتضخ يوميا في المشهد العام للثقافه. بعضها لا أهل له ولا نسب، يتباهى به. قليلها مؤهل للبقاء حيا. انسيابية هذا النص “إنتشال” لغاده رافع عزام، جذبت إنتباهي مؤخرا. فذهبت إليه متعمدا، برؤية المتبصر ورويَّتِه.
فهو نص أدبي حقيقي، مكثف مشدود الى الواقع، الذي لم يحضر كوقائع مثبتة، بل كتدفق منطقي، يطرح اسئلة مختزلة في ذهن المتلقي، من اجل اعادة قراءة فكرة متوهجة بالمجاز، ذات بعد فني ولغوي عميق، محملة بالشعر المبني على مشاهد موحية منتشلة من الحياة، تجسد درجة عالية من الرحيل ومتوازياته من ألم وأمل.
ما أن يعبر المتلقي العتبة الكبرى للنص، المتمثلة بعنوانه “إنتشال”، وقبل أن يتجول بين مضامين مشاهده، يستشعر براعة الكاتبة في إبراز مرارة الرحيل والاصرارعلى تجاوزه، بأمل يتنامى بوضوح. عبَّرت عنه المبدعة، بمجموعة مشاهد تشكل بعضا من خرائط الرحيل ككل، نظَّمها عقلها ورتّبَتْها ثقافتها وتجربتها، بوعي عن طريق المواراة والمواربة والرمزية والايحاء، بين مقتضيات البوح والمواجهة. فالجدل بين مفردات الالم وصيغ الأمل في هذه القصيدة، يأتي مُكثَّفاً مُختزلاً. تشكل في النهاية دعوة لإعادة قراءة تبعات الرحيل التي تتعالق مع حياة أطرافه.
تقول المبدعة: ذات غفوة، ذابت الروح، ولحن حزين يرتل الرحيل، وفي حركة سريعة تتابعية تؤكد المبدعة:
في عناد الوقت، تصارع الصبر فوق حلبة الموت، تهز اوتار الصمود.
ليتساوق قرع الطبول النابضة، والدروب المجهولة، والحقائب المركونة، والصوت المبحوح في دوران الايام، مع نهايات مفتوحة، تُشرِع الكاتبة الأبواب لأكف تلملم بقبضتها همس الحياة وحروفها الذابلة.
إنشغال المبدعة بالحدث، جعلها تتحرك معه بوعي ولكن بلا حيدة، فربطت مشاهده باحتمالات موحية بتواصل الصمود المقاوم، وتشعّب جبهاته ومدِّها الى السماء، عبر عبرعيون تنظر الى ما هو أبعد من الامل بلقاء. في ظل عناد الزمن ولعنته، تحلق فراشة جسورة كما تقول الكاتبة: تلملم الصور، والاوراق ، والاصوات ، والذهول من قعر الآه ، وترممها ، ليعلو في المحصلة قرار السماء ، بانتشال الروح من سكون الموت ، الذي افتتحت به الشاعرة قصيدتها ، الى رحاب اللقاء وعطره .
طريقة غادة، في تقديم مشاهد لوحتها الشعرية هذه ، هادئة بسيطة ومقتصدة ، مع أناقة في اللفظ الممهد للحركة ، وبلا شطط في التصوير، تؤطر حركة الجدل بين مفردات المشاهد . تتميز العناصر الجمالية للدفقات الشعرية في هذه القصيدة ، بتحررها من قيود الوزن وحصار القافية ، مما اتاح لها سعة في التعبير عن موضوعها ، بلغة حرة مكنتها من بناء الصور الواقعية والخيالية للوحتها الشعرية .
أديبتنا ليست محترفة شعر . بل مثقفة مأهولة بالشعر وهواجسه . وطدت علاقاتها بملكاتها وقدراتها . وتمرست بادوات الابداع . وصقلت مهاراتها فيه . مما مكنها من الموازنة باقتدار، بين الشكل والمضمون فيما تحاول قوله . وهي مؤهلة لان ترفع الخاص منها الى مستوى العام.
تتميز هذه المجاهرة ، بمعان كبيرة كاشفة ، مصاغة في جمل قليلة وكلمات وديعة ، وايقاعات مختلطه ، تطل على المتلقي وهو اعزل ، إلا من رغبته في المتابعة والتأمل ، فتفتح له نوافذ على احزانه . وتضعه في ارجوحة اوجاعه ، عله وهو جالس على حوافها او في فضاءاتها ، يستطيع بحذر تفكيكها ، والتعالي على تسلطها ، وان يضيء ما يلوح من احلامه في الافق .
“إنتشال” نص أدبي حقيقي ثري ناجح ، لا يغطي كامل مساحة التجربة الابداعية الممتدة للأديبة غادة العزام ، ولكنه في ظل التزاحم الذي يطفو على سطح المشهد الثقافي في الاردن ، يفسح المجال واسعا ، لمشوارها الطويل لتجسيدِ حضورٍ كاملٍ وفاعلٍ في اثير الابداع . وتمتين علاقتها بصناعته ، بعيدا عن ثقافة التصفيق والتهليل والتكبير ، وصناعة الاسماء وتلميع الحصى .
صحيح ان طقس الكتابة ، يشبه موعدا مع الغياب ، قد يأتي وقد لا يأتي . قد يجيء ولا يأتي ، ولكن المبدع المجتهد ، بعد كل خطوة ناجحة ، مضطر لمتابعة التقدم في الكتابة ، لتحصين خطواته السابقة ، وتطوير حضوره . فبعد النجاح ، لا يعود التوقف الإرادي ، مُباحا ولا يجوز.