رفاهية التواصل* د. هناء عبد الخالق
النشرة الدولية –
قبل اليوم أثار “الفيسبوك” فضولي بغرابة التواصل وسرعته، والمتعة في اكتشاف عالم مجهول. كان ذلك في المواجهة الأولى معه، ونحن جيل الكِتَاب والروايات والكاتب بالنسبة إلينا طيف عابر، نحن جيل ارتياد المعارض وجزء من أحلامنا زيارة متاحف العالم…
هذه المواجهة الأولى تشبه دهشة المراهقة وصولاً إلى مرحلة النضج والوعي باكتشاف عالم جديد أكثر انفتاحاً، بحيث بات التعارف وتبادل الخبرات والأفكار هو كسر للحدود والحواجز، فانتقلتُ في رحابه وفي عالم التكنولوجيا عموماً من مرحلة هاوية تتسكع في الظل إلى باحثة حقيقية عن مكامن المعرفة والجمال وعن تلمّس مواطن الخلل، ولا أدري كيف ستكون رؤيتي للمرحلة المستقبلية.
أحدثت وسائل التواصل ثورة لا يستهان بها في نمط وشكل العلاقات العائلية، الاجتماعية، الثقافية والسياسية… فجذبت إلى عالمها الملايين من المستخدمين من كافة الأعمار ومن مختلف الأماكن، وارتبطت بحياة الإنسان وقضاياه اليومية.
لكن هذا العالم المفتوح زجّ بالإنسان أيضاً بكل شاردة وواردة، بعالم من التناقضات، من قلق واضطراب في الساحات الأمنية، السياسية، الاقتصادية والتربوية… إلى التحليق في عالم الإبداع الذي لا ينتهي. هذا القلق لعامة الناس، ولكن ما هو حال الفنانين اليوم بين قلقهم الوجودي والقلق على الابداع؟
هل حضور الفنان التشكيلي اليوم على منصات التواصل يبدد القلق على الإبداع ليصبح رهن المشاركة والتواصل؟ أم هو انخراط في الواقع المستساغ؟.
لطالما كان القلق الوجودي الرفيق الدائم للإبداع، هو قلق الفنان وتساؤلاته التي تُقلق وجوده، فينشغل بالبحث عن إجابات، علّها ترضي هذه التساؤلات وتفتح أفقًا لقلقٍ جديد في البحث عن المختلف، أي المعنى الحقيقي للعمل الفني، إنه “دوار الحرية” كما وصفه كيركيغارد الفيلسوف الدنماركي. فهل سيضرب الفنان دوار القلق على الإبداع بانجرافه بين مد وجزر وسائل التواصل الاجتماعي المتلاطم بالأهواء المختلفة؟
تشكل وسائل التواصل ومنها “الفيسبوك” أهمية في تقديم الفنان التشكيلي إلى متلقيه، ونافذة مهمة له أيضاً لاكتشاف الآخر في فضاء اتصالي كان غائباً. وقدرة هذا التواصل على تنمية الأداء عبر الاندماج في جو فني يتيح لكل الفنانين رؤية نتاجات غيرهم، في مسار نموها أو عند تقديمها للجمهور. هو أكثر بكثير من مجرد عرض الصور الذاتية (Selfie) وصور الرحلات وإلى ما هنالك من يوميات… إنه معرض رقمي يومي يضم الفنانين وجمهورهم ومنظريهم معاً، في تواصل يومي بل لحظي. وبإمكان المتلقي التعرف على مختلف أنواع الفنون من تشكيل وأدب وموسيقى… بالإضافة إلى إلقاء نظرة خلف كواليس الفنان من ناحية التعرف على أفكاره وطريقة طرحها. وكذلك الفنان من خلال تفاعله مع متلقي صفحته بشكل مباشر يقربه من العامة ليوقظ اهتمامهم بمتابعته بكل طرح جديد.
توسع مدار الفن التشكيلي عبر الوسيط الاكتروني ووسّع أيضاً دائرة التلقي، لكن يبقى الكثير من الأسئلة في مدار هذا العالم، فهو من جهة انخراط في الواقع يُغري بتلقي المعرفة ومتابعة ما توصلت إليه التكنولوجيا في تطوير العمل الفني بسهولة ويسر، وفي الوقت نفسه نلحظ الشهرة الكاذبة وسذاجة الادعاء بالمعرفة والإبداع، وهذا ربما يكون ممراً مفيداً للمقارنة من خلال صراع الأهواء المختلفة.
لم تعد المعارض الوسيلة الوحيدة في انتشار الفنان، واهتمام طبقة معينة من المثقفين والفنانين بإنتاجه، بل أصبح بإمكانه نشر عمله الفني على صفحات التواصل واستقبال التعليقات والردود المباشرة. وهذا ما دفع بالعديد من الفنانين بكافة المجالات بأن يساهموا في هذا الفضاء الثقافي وأن يكونوا في قلب التحديات من أسلوب حياتنا المعاصرة. هذا العالم التواصلي مهد الطريق لانتشار الفنان التشكيلي سواء من ناحية جمهور المثقفين والإعلاميين أو من عامة المتابعين، فاجتاز المسافات وحطّم الحدود الجغرافية وضرب بعرض الحائط باللجان المختصة بتقييم الأعمال أو النقد، وتألق على منبره الخاص يمارس حريته بمبدأ العرض والتفاعل المباشر.
لكن هل سيصيب مرمى هدف المتلقي، ويقوده للذة التذوق الجمالي والفكري؟
إذا كانت الكتابة في هذا العالم التواصلي تحتاج إلى الاختزال والتكثيف لجذب القارئ المستعر بالسرعة وتلقف أكبر عدد ممكن من الأخبار والنصوص، كذلك متلقي الفنون التشكيلية يغريه في الغالب العمل الفني الواضح، بعيداً من العمق الفكري والتقني الذي لا يظهره إلا الاحتكاك المباشر مع العمل، لذلك تختلط المناهل على هذه المنصات الالكترونية وتمنح المتلقي رفاهية التواصل، وتشجع المهتمين على ارتياد أماكن العرض بسبب الإعلانات الجاذبة والمتكررة. فعلى طريق واحد، حيث يتحول العشاق إلى شعراء تخطفنا قصائد ملهمة كانت تنتظر وقتاً طويلاً لتبصر النور، وكما نشاهد عملاً فنياً تطاول صاحبه على عالم الفن نجد أعمالاً لفنانين لم يكن بإمكاننا الاطلاع عليها لولا هذا الفضاء الوهمي والحقيقي في آن واحد، فهو يمثل تناقضات لا يمكن فصلها عن أمراضنا الثقافية والاجتماعية والسياسية.
فإذا كان التواصل الاجتماعي، تواصلاً افتراضياً يعطي حرية للمتلقي كما الفنان من ناحية عدم إلزامه بأي قانون يحكمه، فهو كذلك مسؤولية اجتماعية ومفتاح حيوي نحو آفاق جديدة رغم ما يعتريها من سلبيات، قد نمتلك من خلالها التغيير للأفضل بالاستفادة من ثقافة الإبداع والتذوق الجمالي والفكري. ولكي يحدث هذا التغيير لا بد وأن يصاحبه تغيير في النظرة بالتعامل مع هذه الظاهرة، عن طريق إيجاد معايير شخصية تتيح لنا زيادة المجالات المعرفية من خلال ما يمرر من أفكار ورؤى وغايات، قادرة على تعزيز قاموس التواصل والتقبل عند مختلف الحضارات وعبر مساحة الكرة الأرضية، متيحة للإنسانية تواصلاً يدنو من الواقع، ولكنه لا يُغني عنه.
* فنانة تشكيلية وأستاذة في الجامعة اللبنانية