كيف يحرك المتفردون العالم؟* د. نادية عويدات
النشرة الدولية –
هل تساءلت يوما ما إذا كان هناك صفات مشتركة بين أهم المبدعين والمكتشفين في العالم؟ هذا تماما هو موضوع كتاب عالم النفس والبرفسور آدم غرانت في كتابه “الفريدون: كيف يحرك المتمردون العالم”. Originals: How Non-Conformist Move the World
الكتاب يفصل بدقة ما يجمع أهم شخصيات العالم في العلم والفن والثقافة والتكنولوجيا وعالم الأعمال والذين كان لهم التأثير الأكبر على مسار البشرية من بيتهوفن وبيكاسو وحتى ستيف جوبز وجيف بيزو.
من الصفات التي تجمع هؤلاء أنهم فكروا بطريقة إبداعية جديدة غير معهودة بدل أن يعتمد حكمهم على الأمور بناء على نجاحات الماضي أو على ما يعتمده الآخرون. لم يكونوا وحدهم المستفيدين من تفكيرهم خارج القطيع، فقد غيروا تاريخ البشرية بينما ذهب من لم يدرك عبقرتيهم إلى مزبلة التاريخ.
خذ مثلا الكاتبة البريطانية الشهيرة جي كي راولنغ مؤلفة كتاب هاري بوتر. رفضت بعض دور النشر طباعة الجزء الأول من الكتاب عندما عرضته راولنغ عليهم لأنه لم يطابق المقاييس التقليدية ولكنه عندما نُشر أخيرا بيع منه نسخ بأكثر من خمسة وعشرين مليار دولار (نعم الرقم مليار وليس مليون).
ستيف جوبز زار الهند وتأثر بفلسفة اليوغا والتأمل وعند تصميمه لمنتجاته أراد أن يلهم حتى الصندوق الذي تأتي به المنتجات نوعا من التأمل والهدوء الروحي
ومن الصفات الأخرى التي تجمع عباقرة العالم أنهم وبغض النظر عن تخصصهم، فإن لهم دائما اهتمام بفن ثقافي إبداعي، سواء الموسيقى أو الرسم أو الشعر وما إلى ذلك… الفن يدل على رفاهية الروح وتحليقها في عالم الإبداع، فقد لاحظ الكاتب أن معظم العلماء الذين حازوا على جوائز نوبل في العلوم لديهم هوايات أو اهتمام فني وما كانوا لينجحوا بمجالهم لولا إحساسهم الفني الجمالي الذي ساعدهم على رؤية ما لم يستطيع زملاؤهم أن يروه.
فتشارلز داروين صاحب نظرية التطور التي غيرت العالم كانت له ذائقة موسيقية رفيعة. أما غالاليو، فلو لم يكن رساما مبدعا لما استطاع أن يدرك أهمية الظلال التي رآها من منظاره لسطح القمر، وقد ساعدته موهبته بالألوان أن يلاحظ ما لم يلاحظه غيره من العلماء الذين ألموا فقط بعلوم الفلك.
الاختلاط بالثقافات الأخرى أيضا كان عاملا مشتركا بين الكثير من المبدعين. معظم المبدعين على مستوى البشرية انتقلوا لأكثر من مدينة وبلد، مما وسع مداركهم وتسامحهم مع الاختلاف وعرضهم لتجارب وأفكار متعددة.
ستيف جوبز مثلا زار الهند وتأثر بفلسفة اليوغا والتأمل وعند تصميمه لمنتجاته أراد أن يلهم حتى الصندوق الذي تأتي به المنتجات نوعا من التأمل والهدوء الروحي. ستيف جوبز أنجز نقلة نوعية في صناعة الحاسوب والهاتف والموسيقى والأفلام واللوحات الالكترونية.
ولأن هؤلاء الأشخاص اختلطوا بأفكار كثيرة متباينة ومتعددة، فقد أصبح لديهم القدرة على التمييز بين الأفكار واستيعاب الأصلية منها. الملفت للنظر في ذلك، أن الثقافة الغربية هي في أصلها ثقافة فردية بامتياز، ومع ذلك فقد جاء الإبداع ممن تحدوا أطر الثقافة السائدة في الغرب.
ويشير الكتاب إلى رغبة الشركات الكبيرة مثل غوغل وأيضا الدول الديمقراطية في استقطاب أكبر عدد من الأفراد المبدعين ممن يأتون بأفكار أصلية، فترى شركة غوغل تحدد لموظفيها أوقاتا ليستكشفوا مشاريع جديدة، فيما تشجع الدول الديمقراطية الإبداع بمنظومة جوائز طائلة لا نهاية لها. لماذا؟ لأن إبداع أفراد مثل هؤلاء يدر على البلد مليارات الدولارات ويساهم في الاقتصاد ويرفع مستوى البلد الثقافي. هذا النوع من الكتب والذي يدرس قصص المبدعين ويحتفي بها يُعد من أهم أصناف الكتب في الغرب. ليس هذا فحسب بل تجد مئات، لا بل آلاف المنتجات الإعلامية من أفلام وراديو وبودكاست تلقي الضوء على هكذا مبدعين. في الواقع هي صناعة كاملة متكاملة تلهم كل من يتداولها.
لا يخلو عالمنا الناطق بالعربية من العباقرة والمبدعين أيضا، حتى لو لم يكن هناك احتفاء مشابه بهم وتقليد عريق بدراسة قصص نجاحهم لضمان استمرارها وتكرارها. لكن هذا لا يعني أن عالمنا العربي خالٍ من الإبداع. فلحسن الحظ، الإبداع لا يميز بين الجنسيات وإن كان بلا شك أكثر عطاء في بلاد تضمن الحريات الشخصية، لذلك ترى المهاجرين إلى الدول الغربية من أصول شرق أوسطية عادة ما ينجحون نجاحا باهرا متى ما اندمجوا في منظومات تحترم حقوقهم وتضمن حرياتهم. ولكن حتى داخل العالم العربي، هناك من يدفع بعجلة التقدم للأمام ولو قليلا وبدون الاهتمام باحتفاء إعلامي.
خذ مثلا مبادرة “رواد التنمية” في الأردن والتي أسسها رجل الأعمال فادي غندور وتديرها سمر دودين. هذه المبادرة والتي تمتد فروعها من الأردن إلى مصر ولبنان وفلسطين، تُظهر فكرا إبداعيا مسؤولا ومهتما بخلق أجيال قد تستطيع أن تنقذ العالم العربي من أزماته الفكرية والاقتصادية.
ما يميز هذا المبادرة عن غيرها من عشرات بل مئات المنظمات أنها تزرع في أفرادها الصفات التي تخلق أجيالا تحل مشاكل من دون أن تخلق بالضرورة أية مشكلة أمنية سواء محلية أو دولية.
توفر مبادرة رواد التنمية منحا دراسية للطلاب في مقابل أن يقوم هؤلاء بمبادرات لحل مشاكل في مجتمعاتهم من خلال أعمال تطوعية. سمر دوين مديرة المؤسسة والتي درست الفنون في ولاية كاليفورنيا وحصلت على منح زمالة في أرقى مؤسسات العالم للقيادة والبحث مثل مؤسسة آسبن في الولايات المتحدة وغيرها.. تدرك أيضا أهمية الحس الفني والإبداعي ولذا تقوم بتغذيته في طلاب رواد. عند زيارتي للمؤسسة دهشت من حجم الإبداع الطلابي من رسومات وصناعات محلية وغيرها.
معظم المبدعين على مستوى البشرية انتقلوا لأكثر من مدينة وبلد، مما وسع مداركهم وتسامحهم مع الاختلاف وعرضهم لتجارب وأفكار متعددة
وكذلك يشارك جميع شباب رواد في “دردشات” وهي عبارة عن جلسات تداول أفكار. الفكر الإبداعي الخلاق ينمو مع التحدي وتداول أفكار أخرى بسلمية وتقبل لاختلاف الآخرين. تغذي رواد في شبابها مُثل التعددية والإبداع والعطاء للمجتمع. فادي غندور كان رجلا ذا رؤية متميزة منذ فترة طويلة، فقد كان من أهم المستثمرين في “مكتوب”، أول بريد إلكتروني بالعربي والذي اشترته ياهو YAHOO!. بأكثر من ثمانين مليون دولار.
صادفت زيارتي للأردن قبل سنتين الاجتماع العام لجميع مدراء رواد في المنطقة فطلبت أن أكون ضمن الحاضرين في الاجتماع. أبهرني أسلوب فادي غندور في القيادة ونوع تعامله مع شباب رواد. أتذكر أنى تمنيت لو هناك آلاف من أمثاله وأمثال سمر دودين، بل عشرات الآلاف.
قصص النجاح هذه وغيرها تتواجد في بلادنا لكن لا يتم الاحتفاء بها وتعميمها، والكتابة عنها كما يحدث في الدول الغربية التي تدرك أهمية نشر قصص النجاح لإلهام الآخرين ليحذوا حذوهم، فترى بلادهم تقفز من اختراع إلى آخر، بينما بلادنا من حروب إلى حروب أخرى.
في نفس الوقت، ترى مؤسسات حكومية وتعليمية في الكثير من الدول العربية تكرس في المقابل التقليد الأعمى ولا تسمح بأي مثل عليا، بل ولا تقدم في المحصلة سوى قصص حفنة من الرجال قتلوا وسبوا وغنموا وفتحوا بلدانا منذ ألف عام، وهذا بالنسبة لهم قمة المجد والعطاء للبشرية، وفعلا لقد ألهمت قصصهم شباب المسلمين، وعشرات الآلاف منهم حول العالم، ليأتوا للعراق وسوريا ويعيدوا مجد الخلافة من سبي وفتح.
فكيف يا ترى نستطيع كأشخاص أن نخلق نماذج جديدة، ونحتفل بالقدوة البناءة التي يقدمها أفراد فريدون ومؤسسات فريدة من هذا القرن؟